هذا كلّه في 100 يوم
من الصعب أن نتخيّل أن كل هذه الفوضى التي أحدثها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حصلت فقط في أول مئة يوم من ولايته التي تمتد إلى نحو 1460 يوماً، أي لا يزال أمامنا 1360 يوماً من الأفكار والمقترحات المجنونة، التي لن يلبث أن يتراجع عنها، تماماً كحال كل القرارات التي اتخذها خلال الفترة الأولى من ولايته، والمشاريع التي تحدّث عنها ثم ما لبث أن سحبها من التداول.
قضية التعرفة الجمركية كانت أبرز القنابل التي فجرها ترامب في وجه العالم، إذ لم يستثن تقريباً أي دولة من رفع تعرفة التصدير إلى الولايات المتحدة، وإنْ بنسبٍ متفاوتة، وكانت الصين صاحبة الحصّة الأكبر. قرار كان له تداعيات داخل الولايات المتحدة وخارجها على الأسواق المالية وارتفاع نسبة التضخّم داخل أميركا، خصوصاً مع الإجراءات المضادّة التي اتخذتها الدول المستهدفة في قرار ترامب.
ويبدو أن الرئيس الأميركي أدرك تداعيات القرار وتداركه بتجميد رفع التعرفة على دولٍ كثيرة، باستثناء الصين، 90 يوماً فقط، ما اعتبر نصف خطوة إلى الوراء، من دون أن يعني التراجع الكامل عن استكمال رفع التعرفة، رغم أن المؤشّرات الاقتصادية داخل الولايات المتحدة تدفع نحو تمديد التجميد لمعالجة التداعيات التي هوت بشعبية ترامب في أول مئة يوم من حكمه.
ومن الواضح أن استثناء الصين من تجميد تطبيق التعرفة الجمركية لم يُؤت أكله، على اعتبار أنها السوق الأكبر للواردات الأميركية، ما تُرجم بارتفاع كبير للأسعار داخل الولايات المتحدة، وهو ما دفع ترامب إلى التراجع نصف خطوة أخرى، إذ أعلن استعداده "لتقليص كبير" للرسوم الجمركية على الواردات الصينية، والتي بلغت نسبتها الإجمالية 145%. ترافق ذلك مع تسريباتٍ صينيةٍ عن إلحاح أميركي على بكين للتفاوض في ما يخصّ التعرفة، والتي اتضح أن فرضها كان قراراً ارتجالياً خاطئاً.
ينسحب الإخفاق الاقتصادي في قضية التعرفة الجمركية على إخفاقاتٍ أخرى في قضايا كثيرة تدخّل فيها ترامب، لعل أبرزها الحرب في أوكرانيا. فبعد الوعود التي أطلقها لإنهاء الحرب ووقف تسليح كييف وإهانته الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في البيت الأبيض، والاعتراف بثقته برغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقف القتال، عادت الجبهة إلى الاشتعال، ليعدل ترامب من تصريحاته ويعاود مدّ اليد لزيلينسكي جزئياً، بعدما رأى أن بوتين "غير جاد".
الأمر نفسه يمكن إسقاطه على قطاع غزّة، فبعد الضغط الذي مارسه على إسرائيل في الأيام الأولى من ولايته، وأثمر هدنة قصيرة، عاد ليؤيد استئناف العدوان الذي وعد بإيقافه وتحرير المحتجزين الإسرائيليين قبل وصوله إلى البيت الأبيض.
إيران أيضاً من ضمن الملفات التي تراجع ترامب عن كيفية التعامل معها، ففي بداية ولايته كان الحديث عن تفكيك كامل لبرنامج طهران النووي، سلمياً كان أم عسكرياً، والتهديد بتوجيه ضرباتٍ عنيفةٍ إلى إيران في حال عدم انصياعها، عاد إلى فتح باب مفاوضات غير مباشرة لا تتضمّن الشروط التي كان وضعها سابقاً، بل بسقوفٍ أدنى بكثير، وهو ما أثار حفيظة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خلال زيارته إلى البيت الأبيض.
يمكن تعداد المزيد والمزيد من القضايا التي وضعها ترامب على أجندته وتراجع عنها، أو جمّد الحديث فيها، لأنها لم تكن محسوبة بدقّة سياسياً وعسكرياً، على غرار ضم جزيرة غرينلاند والسيطرة على قناة بنما وتغيير اسم خليج المكسيك، وحتى ضم كندا إلى الولايات المتحدة.
رغم ذلك، لم يتوقف ترامب عن سلوكه وتصريحاته غير المدروسة، والتي لن يلبث أن يسحبها، وكان جديدها أخيراً طلب مرور السفن الأميركية عبر قناة السويس مجّاناً، باعتبار أن الولايات المتحدة مساهمة في سيطرة مصر عليها، وهو تصريحٌ غير مفهوم، وليس له أي سند منطقي أو تاريخي.
... هذا كله والمزيد في أول مئة يوم، وينتظرنا أكثر في ما تبقى.