هؤلاء أوقعوا ريان في الجبّ

هؤلاء أوقعوا ريان في الجبّ

11 فبراير 2022
+ الخط -

حقّق ريان في عمره القصير على الأرض، وفي خمسة أيّام، ما لم يُحقّقه مئات الملايين في حياواتهم كلّها، وما لم تحققه الجهود الدبلوماسية ولا المؤسّسات السياسية بكامل ثقلها على مدى عقود طويلة. وحّد المنطقة العربية، ومحا أحقادا، ولو إلى وقت وجيز، وهزّ العالم تعاطفاً وإنسانيّة، بشكلٍ لم يسبق له مثيل. لم ينتظر العالم سابقاً نجاة إنسان واحد، مهما عظُم شأنه، حابساً أنفاسه أيّاما، كما فعل مع ريان. ولم يحزن العالم على إنسانٍ، مهما عظُم شأنه، كما حزن على ريان.

لعل ما يخفّف من حسرة الفقدان إدراك الألم الذي كان يعانيه ريان، وارتاح منه نهائياً حين لم تكن أمامه فرصة للنّجاة، مع تأخّر عملية الإنقاذ. على الرغم من أن حقيقة تمسّكه بالحياة، وهو يمدّ فمه الصّغير إلى أنبوب الماء الذي أُنزل إليه، وصموده بكلّ قواه، مؤلمة، لكن ما العمل حين خذله الذين في الخارج، قبل سقوطه في البئر وبعده.

لم يذهب ريان فارغ الأيدي إلى جنّته، فهو لم يغادر إلا بعد أن غيّر العالم في بضعة أيام، وأنقذ أطفالاً كثيرين بعد أن أقدمت دول عديدة على إغلاق الآبار المهجورة، وهو ما ليس بإمكان أيّ شخص آخر في العالم أن يفعله. وليس قبل أن ينقذ عائلته من الفقر الشّديد، وهو ما كان سيقضي حياة كاملة لتحقيقه. ولم يفُته أن يلفت الانتباه إلى قريته المنسيّة في جبال الرّيف، بين البرد وصعوبة التّضاريس وقلّة ذات اليد وإهمال الدولة.

قبل أن يرحل، ذكّرنا ريان بأنّ بين الموت والحياة شعرةً رفيعة؛ فبين فرحة إخراج ريان وصدمة وفاته دقيقتان فصلتا لحظة خروجه من النّفق والإعلان عن وفاته. وأنّ الأمل أشدّ من الواقع، على الرغم من انعدام الأخبار عن حالته أكثر من أربع وعشرين ساعة قبل إخراجه، ورغم الإجراءات التي سبقت نهاية عملية الحفر، ومنها إدخال والديه إلى سيّارة إسعاف ساعات حيث تم إخبارهما. إلا أننا غضضنا البصر، وتمسّكنا بالأمل. انشغلنا بالحفر وانتظار خروج ريان. ثم وقعت الفرحة الهستيرية ولذّة الانتصار مُدوية مثل وقعة ريان في البئر.

لفت ريان انتباهنا إلى ظروف الحياة الصّعبة، في المناطق القروية النّائية، حيث لا تُشكّل الآبار الخطر الوحيد على الأطفال. لكن الإهمال والاستغلال حولّاها إلى قبور لضحاياها؛ إهمال من حفرها واستغلال من جفّف المنطقة من الماء، وزجّ أهلها في بئرٍ من العطش. هؤلاء دمّروا الأسر هناك، مع شحّ المياه بسبب امتصاص زراعة الحشيش في المناطق المجاورة لكلّ الموارد المائية الجوفية. هذه الزّراعة لم تترك لصغار الفلّاحين مثل أسرة ريان إلّا العطش الذي لم تكف ثلاثون مترا لدرئه.

لكن المسؤولية الكبرى تقع على الدولة قبل وقوع ريان في الجبّ وبعده؛ فطوال مدّة وجود ريان في البئر، كان إهمال الدّولة أكثر الحقائق بروزاً في اللّحظات الأولى للحدث، مع انتشار الهواتف والكاميرات مثل الفِطر. ضاع وقتٌ ثمينٌ في غياب المسؤولين عن المشهد، حيث لم يظهر أيّ منهم في المكان إلّا بعد يومين. ولم يظهر أيٌّ منهم على القنوات لشرح عملية الإنقاذ. بدل ذلك، رأينا أبطال اللّحظة؛ عمال الإنقاذ وكلّ من تكلّف بعملية الحفر، الذين بذلوا كل ما في جهدهم.

لا يتحمّل أصحاب القرار مسؤولية التغاضي عن سلوكيات لوبي الحشيش، بدل إنقاذ القرى منه فقط، بل يتحمّلون أيضا مسؤولية الإخفاق في إنقاذ ريان، فلم تُستدع الآليات الضخمة التي تقع على بعد أقل من خمسين كيلومترا، في أقرب مدينةٍ كبرى إلى المنطقة مبكّراً، ولم يتمّ اتخاذ قرار الحفر إلّا بعد مرور أكثر من 24 ساعة، بعد استحالة إنقاذ ريان عن طريق المتطوّعين النازلين إلى البئر. فيما يُفترض أن يتم الحفر منذ البداية، بالتوازي مع إنزال المتطوّعين؛ فالوقت كان عدو عملية الإنقاذ الأوّل.

ترك حادث سقوط ريان حزناً وأسى هائلين، لكنه أحدث لحظة إنسانيّة نادرة، حتى ولو كانت نهايتها أليمة. ريان حيّ يمشي بيننا، بما تركه فينا من أثر عميق، والذين وقعوا في الجبّ هم تجار المأساة وصانعوها.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج