نوال السعداوي أيقونةٌ ضحية شهرتها

نوال السعداوي أيقونةٌ ضحية شهرتها

01 ابريل 2021

نوال السعداوي في منزلها في القاهرة (30/9/2015/Getty)

+ الخط -

في أوائل السبعينيات، نسمع بنوال السعداوي، وبكتابها الممنوع من النشر في مصر، وعنوانه "المرأة والجنس"، فنترَقّبه، ويصدر أخيراً. كتاب متفجّر تمرّداً ومعرفة. كتاب حيّ، ميداني، مادّته قصص اللواتي يتطبّبنَ عند الدكتورة السعداوي. وكلها تتعلّق بحياتهن الجنسية. بتجارب حقيقية تكشف تابوهات العُذرية والختان، وجوانب أخرى كان مسكوتاً عنها في تلك السنوات. ولا يتفقّه بها إلا الشيوخ، ولهم تراث مغرقِ في التفاصيل حول الممنوع والمحمود والمكروه في الحياة الجنسية للمْسلمات.

لذلك كان "المرأة والجنس" كتابا ثوريا، موثوقا وجذّابا. ونحن، في بيروت، في "بيئتنا" الثقافية، كنا قد قرأنا الأدبيات النسوية الغربية، وباستعداد تلقائي على الإعجاب بها. ولكن السعداوي، بما ضخّته علينا من مادة مباشرة في هذا الكتاب، تعيدنا إلى واقعنا "الملْموس" (كما يقولون)، تشحذْ خيالنا الواقعي، وتحرّضنا على طرح الاسئلة على محيطنا خلال غوْصنا في النظريات النسوية الغربية.

وبعد سنوات قليلة، يقوم أنور السادات بمبادرة، سوف تسجَّل في سيرة نوال السعداوي: قبل اغتياله بشهر، يأمر باعتقال 1500 مواطن مصري، تغلب عليهم الميول الإسلامية. من بينهم 53 مثقفا وصحافيا ينتمون إلى أحزاب اليسار، والسعداوي منهم. والسبب معارضة هؤلاء المواطنين اتفاقية كامب دافيد. وفي وقت لاحق، في عهد حسني مبارك، تتعرّض السعداوي لحملات تشهير ودعاوى حسْبة. ودائماً بعد تصريحات نارية لها، مكرّرة، مثيرة للجدل، تمّر على شاشات التلفزة، يشاهدها الملايين. فتزيد "حملات التضامن" معها وضد التيار السلفي الإسلامي، ما يكسبها مزيدا من الشهرة خارج مصر.

السعداوي مثل يساريين مصريين تقليديين عديدين، تختار العسكر، تفضلهم على الإخوان المسلمين. العسكر أكثر "حداثة" منهم

هكذا، صارت نوال السعداوي شخصية عالمية، تهتم بها المؤسسات والجمعيات الغربية النسوية. تعتبرها ضحية "تخلّف" مجتمعها. فتستضيفها في جامعاتها، ومكتباتها، وتطلب منها التكلّم بشؤون المرأة المصرية. وبين رحلةٍ وأخرى، أو ندوة، أو مؤتمر وآخر، وترجماتٍ لكتبها إلى كذا لغة أجنبية، ومحاوراتٍ في صالونات كتب غربية وبعض العربية، ومقابلاتٍ على شاشات مختلفة، وجوائز رفيعة... طُوِّبت السعداوي مناضلة ونسوية ومفكرة وأديبة، صاحبة عشرات الروايات (لها خمسون كتابا). هكذا حلّقت في العُلا...

وهذا التحليق بالذات، ومنذ بدايته، أضاع أصل الكتاب الأول "المرأة والجنس"، وراحت السعداوي تكتب ثم تكتب.. في البدء، تابعتُها، مع كتبها الثلاثة اللاحقة: "الرجل والجنس"، و"الأنثى هي الأصل" و"الوجه العاري للمرأة العربية". ولكن هذه الكتب كانت تلخيصا أو نقلا أو نسخا لما صدر من الفكر الغربي من أدبياتٍ تخصّ تحرير النساء. حاولتُ بعد ذلك قراءة بعض كتبها "الأدبية"، فكانت روايات تبسيطية، "أيديولوجية"، فاقدة للجاذبية.

ماذا حصل لنوال السعداوي بعد النجاح الباهر وتطويبها شخصية مناضلة ونسوية؟ إنها دخلت في الإطار- الفخ الذي تفرضه الشهرة على بعض أصحاب الطبائع النرجسية الحادّة. أي أنها، أي الشهرة، توقف نموهم الإبداعي، أو الفكري. تجمّده في لحظة انتصاراته الأولى التي عشقها هؤلاء منذ النظرة الأولى. و"الانتصار" هنا ليس بالكتاب وحسب، وإنما أيضا بإكليل اليسارية النضالية. مناضلة ومفكّرة.

وفي هذا الإطار الضيق - الواسع، لم تتمكّن السعداوي من متابعة رسم طريقَيها الاثنين: الفكري والنضالي. بالنسبة للفكر، فاتَها ما طرأ على المجتمع المصري، كغيره من المجتمعات العربية. دخلت عليه "الهيمنة الثقافية" الإسلامية (بالمعنى الغرامشي للكلمة، أي "هيمنة طوعية"). ومن أشكال التعايش مع هذه الهيمنة ومقاومتها، خرجت شخصياتٌ إسلاميةٌ نسائية لا تقلّ طغياناً عن السعداوي (صافيناز كاظم)، وظواهر فكرية نسوية جديدة (مجموعة "المرأة والذاكرة")، ومعان جديدة للحجاب (محجّبات ولكن عصريات)، وعناوين أخرى للنضال النسوي (التحرّش الجنسي) وأطر فكرية جديدة للمسألة النسوية (النسوية الإسلامية)... وكلها لا تسترشد بالشعارات التي باتت السعدواي معروفةً بها. وكأن ثمّة هوة بين النسويات المصريات، محجّبات أو سافرات، وبين أعظمهن شخصية، وأكثرهن "عالمية". هن، من جهتهن، يطوّرن معاني الحقوق النسائية تبعاً لتفاصيل الميدان المصري وموارده. كما فعلت السعداوي في كتابها الأول. فيما هي منْكبّة الآن على إطلاق شعارات حول العذرية، الميراث، الحجاب، الختان .. إلخ... في الإسلام، تعيش على وقعْ تكرارها. فلا تثير غير الجدل الصاخب والمُغْلَق.

حرصت على أن تبقى كما قدّمت نفسها في عزّ طلعتها وبداية شهرتها. بكتاباتها وشعاراتها، كما بنضاليتها

أما الطريق "النضالي" لفكر السعداوي فيعيدنا إلى ظاهرةٍ، يمكن تسميتها "اللحظة التاريخية في حياة مناضل": عندما يبلغ المجد بدخوله إلى السجن أو مواجهته الشجاعة للحاكم. وكل الذين عاشوا تلك "اللحظة" بقوا على قيد الحياة. وإلا ما كانوا استمتعوا بها، وحوّلوها إلى "رصيد معنوي"، أو "رأس مال رمزي"، يسبقهم اسمهم به، حيث ما جالوا. وذلك كله يمكن أن يحصل لهم، سواء استمرّوا بـ"النضال"، أو لم يستمرّوا. فمن بين زملاء السعدواي اليساريين الخارجين من السجن شخصيات التحقت بأجهزة الدولة، وبلغت أرفعها، فصارت "الوجه المتنوّر" للنظام: اليساري القديم الموالي للسلطة، الذي لا بد أن يجْلب خيراً للأمة. ..

نأتي إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي. وقد أُشْبِعت السعداوي ذماً وهجاء على موقفها الإيجابي منه. خذْ مثلاً، ومن بيئة نساء مثقفات: في فبراير/ شباط من العام 2016، كتبت الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت بوستاً، تحتجّ فيه، بأسلوب شعري رقيق، على ذبح الأضاحي في العيد الكبير. فيكون عقابها، بقرار من محكمة جنح الخليفة، السجن ثلاث سنوات وغرامة عشرين ألف جنيه. بعدها، انطلقت حملة التضامن مع الشاعرة. لا نعرف إذا كانت السعداوي مشتركةً بهذه الحملة. ولكن المؤكّد أنها، بعد شهر من الحكم الصادر على الشاعرة فاطمة ناعوت، كانت على الشاشة الصغيرة تمتدح السيسي، تدافع عنه، وتقول إنه أفضل من مبارك والسادات .. إلخ. وهذه ليست سوى مفارقة ظاهرية بأن تحاسَب شاعرة على كلامها الرقيق عن طقس ديني، فيما تبقى السعداوي طليقةً بشعاراتها الاستفزازية ضد الدين وطقوسه. وموقف السعداوي من السيسي مرتبط بعمق التفكير لديها، ولدى يساريين مصريين عديدين، فعلى الرغم من استبدادية السيسي وسهولة رمْيه المواطنين في السجون وإخفائهم، وبأعدادٍ تفوق التي اختبرها المصريون أيام مبارك، ناهيك عن أوامره بقتل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، جماعة وأفرادا، في الفَلا أو في السجن، على الرغم من هذا كله، السعداوي واقفة معه، تمنحه من رصيدها الفكري والنضالي "العالمي" دعماً معنوياً يحتاج إليه في المقْتلة. هو الذي لا يختلف عن "الرؤساء المؤمنين" من أسلافه في مغازلة الفكر الإخواني ومحاربتهم أمنياً. وتبدو السعداوي هنا كمن "يكبّر" عقله صوناً "للأولويات"، فالثنائية "عسكر وإخوان" ما زالت في دائرة الصراع، والمصريون منقسمون حولها. والسعداوي مثل يساريين مصريين تقليديين عديدين، تختار العسكر، تفضلهم على الإخوان. العسكر أكثر "حداثة" منهم.

رسم الذيوع حول وجهها إطاراً، لا يمكن أن يكون غير ثابت، فتجمّد الوجه، الذي بقي على تعبيراته الأولى

ولكن الأمر لا يُفتَرض به أن يثير عجبنا، نحن أهل المشرق، لبنان وسورية، فساحتنا تعجّ بنظراء السعدواي، من رجال ونساء. يساريين ونسويين. في الانقسام الحاصل داخل أوطانهم، اختاروا الحاكم المستعين بمليشيا، أو حاكم هو نفسه قائد مليشيا. والحاكمان متفوّقان في قدرتهما على قتل السوريين واللبنانيين في مقابل مطالبتهم بالحرية والعدالة. ومن بين أنصارهم "الفكريين" يساريون ممانعون، وشعاراتهم قريبة من السعداوي. خذْ شعارها الثابت مثلاً: "لن تتحرّر المرأة إلا إذا أسقطنا النظام الإمبريالي الرأسمالي". وتجد الصدى المشرقي لهذا الشرط: "لا إصلاح للنظام، لا خبز، لا غاز، لا حرية .. قبل التحرّر من الإمبريالية والصهيونية".

لا عجب ساعتها أن تتكلم السعداوي، اليسارية، مثلما يتكلّم أي ممانع عندنا حول الثورات. والفرق أنها لم تعتمد على تقارير، بل رأت الموضوع "بأم عينيها". رأت هيلاري كلينتون في الميدان، في أثناء الثورة، "تحثَ المتظاهرين على انتخاب الإخوان المسلمين والسلفيين"... وهذه رواية تناظر تلك الصادرة عن بشار الأسد أو حسن نصر الله أو ذبابهما الإلكتروني: إن الثوار المطالِبين بإسقاط نظامهم تلقّوا الإرشادات والأموال من السفارة الأميركية دعماً للإرهاب الإسلامي.

حرصت نوال السعداوي على أن تبقى كما قدمت نفسها في عزّ طلعتها وبداية شهرتها. بكتاباتها وشعاراتها، كما بنضاليتها، فتوقفت عن التطوّر. ونالت، في هذه الأثناء، من الذيوع ما أدخلها في أتونه. إذ رسم الذيوع حول وجهها إطاراً، لا يمكن أن يكون غير ثابت، فتجمّد الوجه، الذي بقي على تعبيراته الأولى، تحرُث صاحبته فيه بمواد التأكيد، ثم إعادة التأكيد، على جدارتها بالشهرة. وهذه تجربة لا تنْفرد بها السعداوي، ولا العرب وحدهم، بل تكاد تكون عالمية.