نهايات تليق بمفكّر خانته العصافير
(فاتح المدرس)
هل المشهد النهائي دائماً يكون صعباً، حتى على نابليون في غرفته الأخيرة أو هتلر؟ المشهد النهائي مجرّد تلخيص للأطماع السابقة كلّها، ذلك المشهد الأخير الذي يخصّ رجلاً، أو شجرة، أو قرداً، أو سجيناً، أو زعيماً، أو إمبراطوراً، أو حتى جميلة كاد الدلال أن يخرّ من أطراف أصابعها، أو وسيلة لأحد الملتزمين القدماء، كان فرع النهر يحدّها من الغرب والصفصاف المائل بفروعه إلى الماء في الترعة من الشرق، والبنادق من الجهتَين البحرية والقبلية مع كلاب الخفراء.
المشهد النهائي حتى وإن لم يكن حزيناً بما يكفي، فإنه يعطى قراءة للمشهد كلّه؛ الحكاية في نهايتها كالمشهد، كصاحب القرد حينما يكبر وتفارقه أفراحه وحركاته، حتى القرد يحزن لضعف بنيته هو الآخر، وعدم قدرته على أداء الحركات المضحكة أمام الجموع، حتى الغابات نفسها تحنّ إلى نهاية خضرتها، فتأتي إليها الريح المستعرة بالنار والهول.
قد تكون نهاية المشهد أليمة على الراقصة، أو السياسي حينما تنسدّ الطرق، والمذيع أيضاً حينما تهرب فلوس السياسة إلى كرة القدم، أو بناء الشاليهات على البحر، أو إلى الأبراج السكنية فوق ضلوع النهر، أو حتى إلى أعمال السحر والشعوذة والجنّيات، مثل نهايات الكاتب حينما يصاب بالشلل وينشغل الأحفاد عنه بألعاب الكمبيوتر والرحلات و"البربكيوز"، وأشياء أخرى أكثر أهمية لديهم من اتساع المكتبة.
النهايات دائماً تكون حزينة، حتى وإن كانت لرجل حزبي يعيش آخر أيامه ويتمنى طلاء جدران حزبه قبل الانتخابات، وينتظر كاميرات المذيع رغم أنه نسي علبة برشام الأعصاب واضطراب الأطراف في منزله، ثمّ تذكّر أنه نسي البرشام في غرفة الفندق، لأن كلّ طلباته تُقضى "على حساب المحلّ"، بما في ذلك المسّاج وياميش رمضان، حتى العمرة الرمضانية بمقاعد طيران الدرجة الأولى، وبعد ذلك يبعثر الأحفاد صوره وهو في الكعبة قبل أن يتعاركوا على نصيب أمهاتهم في الفندق، الذي تركه في "ميدان الساعة" وقد أحيط بالحرس.
النهايات تكون قريبة جداً من غروب الشمس، أو حتى عودة الأغنام من الحقول فوق الكوبري القديم الذي بناه الإنجليز، وكثر أسفله بالأطنان نبات ورد النيل، بعدما حطّت فوقها طيور مالك الحزين، ومالك الحزين وحده هو الذي يشمّ المشهد، ولكن لا يتعفّف.
نهايات المشهد، حتى وإن كانت فخمة وغير حزينة ومحاطة بالمصفّحات حول سور مقبرة، وكل شيء يرتجف من البرد حتى أفراد الأمن الصغار والمساكين وهم يتبادلون في الصقيع أسلحتهم من خلف المتاريس، إلا أن اللبيب فقط هو من يقرأ خبايا المشهد، ويعرف أن الأسلحة قد بات ينخر فيها السوس، حتى إن استخدمت فيما بعد خلف المدافع التي تطلق من فوهاتها أربعة وعشرين طلقة أخرى لبداية رجل آخر، استبدل السترة بالحرير مع المطرقة أو المنجل.
النهايات تقول الحكاية تماماً، ولكن الحكاية تكون خاطفة وحقيقية، وفي خفّة عصفور، أو في خفة نزول دمعة.
نهاية المشهد حتى وإن كانت عصيّة إلا أنها على طرف اللسان، حتى وإن كان اللسان مقطوعاً، أو مدفوناً بكامله من سنوات وراء أسنان الفم، كسترة ذلك المفكّر التي عُلّقت على مسمار وعلتها الأتربة، ومن حولها ترى شهادات التقدير تحدق فيه وهو يحاول في شعر رأسه القليل الذي تبعثر فوق فروة الرأس، ويحاول أن يرفع الرأس كي يتأمل العصافير وهي تتعارك كي تقف خارج الشبّاك، وتحتك بالزجاج.
المفكّر يرى العصافير وهو في غرفته من دون أن يتساءل إن كانت خائفة أم تتعارك مع بعضها، طمعاً في بقعة الشمس الوحيدة التي طاولت زجاج الشبّاك، أم لأنها ترى أشياء أخرى تشدّها داخل غرفة المفكّر، ولا يدريها بالطبع المفكّر، بعدما لم يعد له قدرة على تفسير تلك الأشياء المرهقة، وخاصّة إن تعلّق الأمر بطير.
تأكّد المفكّر في نهاية ذلك المشهد أن الشمس آتية، وأن العصافير هي العالم الذي هرب منه تماماً، وأن النظريات قد هربت هي الأخرى تماماً منه، ولم يعد يطاوعه سوى المذياع.