نقيب جديد للمحامين التونسيين وخسارة للرئيس
نقيب المحامين التونسيين المنتخب أخيراً بوبكر بالثابت (صفحته في فيسبوك)
تمكن بوبكر بالثابت، المولود في مدينة دوز في أقصى الجنوب التونسي سنة 1970، والمتحصّل على شهادة الكفاءة في المحاماة سنة 1994، والمحامي لدى التعقيب منذ 2005، وعضو وكاتب عام الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات لسنة 2011 التي أشرفت على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، أول انتخابات ديمقراطية تعرفها تونس في تاريخها، تمكّن من الفوز يوم 13 سبتمبر/ أيلول الجاري بخطّة نقيب (عميد) المحامين التونسيين، من الدور الأول بعد أن صوّت له 2193 محامياً من ضمن ما يناهز أربعة آلاف محام شاركوا في عملية التصويت.
وفي سيرة بالثابت أيضاً أنه كان عضواً سابقاً في مجلس الهيئة الوطنية للمحامين وكاتبها العام، وهو من الناحية السياسية سليل التيار القومي العربي التقدّمي (ناصري)، وقد فاز على منافسيه فوزاً ساحقاً، لم تعرف المحاماة التونسية مثله إلا سنة 2016 بفوز عامر المحرزي المدعوم آنذاك من الإسلاميين (حركة النهضة).
منافسو بالثابت الرئيسيون هذه المرّة هم كل من محمّد محجوب (498 صوتا)، وهو محسوب على مناصري الرئيس قيس سعيّد في قطاع المحاماة ومدعوم من العميد الأسبق ورئيس مجلس النواب الحالي إبراهيم بودربالة، ومحمد الهادفي (422 صوتا) سليل التيار الوطني الديمقراطي (ماركسي لينيني) ورئيس فرع محامي تونس العاصمة، وعبد الرؤوف العيادي (150 صوتا) النائب السابق بالمجلس الوطني التأسيسي عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ومؤسس حركة وفاء ويلقى حاليا تأييد الإسلاميين التونسيين.
تمكّن النقيب الجديد للمحامين التونسيين من تحقيق نوع من الإجماع في صفوف المحاماة التونسية وفي تياراتها المختلفة، وذلك بعد الانقسام الحاد الذي شقّها على أثر انقلاب 25 جويلية (يوليو) الرئاسي لسنة 2021 وظهور تيار واسع يؤيّد ذلك الانقلاب السياسي ويدعم ما قام به الرئيس قيس سعيّد ويعتبره حركة تصحيحية في صلب الثورة التونسية، فهو (بالثابت) لم يحظ بتأييد طيف واسع من المحامين الذين يطلق عليهم في قطاع المحاماة الأغلبية الصامتة فقط، وإنما كان يلقى تأييد إسلاميين ويساريين ماركسيين وغير ماركسيين ودستوريين بالإضافة إلى المحامين العروبيين والقوميين النواة التي كانت سنده في حملته الانتخابية.
رفض بوبكر السابقة الخطيرة المتمثّلة في اقتحام البوليس دار المحامي بتونس العاصمة
ويعود هذا التأييد الواسع الذي حظي به الرجل إلى عدّة عوامل، منها تقدّمه إلى خطّة نقيب المحامين التونسيين عدّة مرّات (2016 و2019 و2022) ما أكسبه تجربة في خوض المعارك الانتخابية القطاعية ودراية دقيقة بمشكلات قطاعه وربط شبكة علاقات واسعة بالمحامين التونسيين في كل المدن وخصهم بالزيارات في مكاتبهم أو في المحاكم التي يباشرون فيها عملهم. وهو بذلك يقتدي بالبشير الصيد العميد الأسبق (2001 - 2004 و2007 - 2010) ومؤسّس حزب التجمع القومي العربي سنة 1984، الذي كان، أثناء حملاته الانتخابية، يطرق أبواب كافة مكاتب المحامين بدون أي ملل أو عناء.
ومن العوامل الحاسمة التي ساعدت بالثابت على الفوز وعوده الانتخابية الواضحة في الدفاع عن استقلالية القضاء عبر إعادة الاعتبار وتفعيل المجلس الأعلى للقضاء على قاعدة القضاء سلطة قائمة بذاتها، وليست مجرّد وظيفة، والتصدّي لقضاء التعليمات وأحكامه المعدّة سلفاً، والتعامل مع المحاماة بوصفها مرفقاً عمومياً وشريكا في إقامة العدل وتكريس العدالة، وإصلاح قطاع المحاماة وردّ الاعتبار للمحامين وتفعيل القوانين التي تؤمّن لهم الحصانة بعد أن باتوا فريسة سهلة للسلطة التنفيذية.
هذا علاوة على رفضه البات السابقة الخطيرة المتمثّلة في اقتحام البوليس دار المحامي بتونس العاصمة في مناسبتين للقبض على المحامي المهدي زقروبة والمحامية سنية الدهماني والتنديد بذلك الإجراء. بل وذهب أكثر من ذلك بترؤس هيئة الدفاع عن زقروبة المحسوب على الإسلاميين والترافع عن الدهماني المحامية اليسارية المسجونة على خلفية رأي صدعت به بإحدى القنوات الخاصة. وفي الوقت نفسه، لم يتأخّر في إعلان نيابته للدفاع عن السجين نور الدين البحيري القيادي بحركة النهضة والوزير في حكومة الترويكا والنائب السابق، والسجينة عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحرّ والنائب السابق بالبرلمان التونسي، وغيرهما من السياسيين المودعين السجون، أمثال غازي الشواشي الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي وعصام الشابي الأمين العام للحزب الجمهوري، وكل الموقوفين في قضايا التآمر، والمسجونين على خلفية ترشّحهم للانتخابات الرئاسية وقضايا التزكيات.
بانتخاب النقيب الجديد وأعضاء مجلس الهيئة الوطنية للمحامين تكون سلطة الرئيس سعيّد قد خسرت ولاء قطاع حيوي وفعال في المجال العام السياسي والقانوني
استطاع بالثابت أن يتجاوز تابوهات الأيديولوجيا وعوائقها وإكراهات ألوانها وانغلاق أنصارها وزعم امتلاكهم الحقيقة واحتكارها دون سواهم، وأن يسوّق نفسه محامياً وحقوقياً ديمقراطياً، استفاد من تجربته في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات سنة 2011، قادراً على الاعتراف بالآخر والدفاع عنه وعن حقّه في الوجود، رغم التمايز عنه والاختلاف معه. وهو ما شكّل الأرضية الملائمة لقبوله عميداً في قطاع تسكن السياسة في ثناياه وتفاصيله وأصغر خلاياه، ويعدّ، على مرّ التاريخ السياسي التونسي المعاصر، منبت الزعماء والرؤساء والوزراء والسفراء والكوادر الحزبية وغير الحزبية التي تتولى السلطة والزعامات التي تختار صف المعارضة، وملجأ الروابط والمنظمات الوطنية والدولية المدافعة عن الحقوق والحريات في تصديها للمظالم الناتجة عن القمع والاستبداد واضطهاد الأفراد والجماعات.
كان النقيب الجديد مدعوماً، في التزام قواعد اللعبة الديمقراطية المميّزة لتاريخ المحاماة التونسية، بتوافد حشود المحامين التونسيين بصفة مكثّفة من كل المدن التونسية إلى العاصمة لانتخاب أعضاء مجلس الهيئة الوطنية للمحامين، وأفرزت العملية الانتخابية فسيفساء من الانتماءات السياسية التقليدية التونسية. فقد ضمّ المجلس الجديد، المكوّن من 14 عضواً يضاف إليهم النقيب المنتخب والنقيب المتخلي، أسماء إسلامية وأخرى يسارية ماركسية وثالثة قومية عربية ورابعة دستورية ومثيلاتها لبرالية وحقوقية مدنية ونقابية ولاءاتها قطاعية.
وبذلك تكون المحاماة التونسية قد استطاعت الإفلات من تيار الاستبداد المتصاعد والعائد بقوّة، وأن تحفظ التعايش بين خصماء سياسيين وأيديولوجيين، عجزت الطبقة السياسية، بسبب صراع الديكة الأيديولوجي الذي هتك عرض تجربة الانتقال الديمقراطي (2011 - 2021)، الحفاظ على حدوده الدنيا، وأن تجعل من الفضاء العام السياسي محراباً للاعتراف بالآخر والتداول السلمي على السلطة.
استطاع بالثابت أن يتجاوز تابوهات الأيديولوجيا وعوائقها وإكراهات ألوانها وانغلاق أنصارها وزعم امتلاكهم الحقيقة واحتكارها دون سواهم
لم تكن الجلسة العامة الانتخابية التي عاشت على وقعها مدينة الثقافة مجرّد حدث نقابي - قطاعي عادي، يماثل بقية القطاعات والنقابات، وإنما كانت مؤتمراً سياسياً رُفعت فيه شعارات سياسية بخلفية مناوئة لسلطة الرئيس قيس سعيّد، على غرار "حرّيات دولة البوليس وفات (انتهت)"، وذلك بسبب تحويل القضاء إلى مجرّد وظيفة، وإيداع السجن قادة أحزاب ومرشّحين للرئاسة وإعلاميين وحقوقيين ونقابيين ونشطاء في المجتمع المدني ومدوّنين وقضاة ورجال أعمال من المحامين ومن غير المحامين.
غابت في الإبّان المؤشّرات والرسائل التي تعبّر عن قبول الرئيس سعيّد وحكومته، وخصوصاً وزيرة العدل انتخاب النقيب الجديد، بتهنئته بالمهاتفة أو الكتابة، ما قد يجعل من العلاقة بين الطرفين تولد متوتّرة، أو هي القطيعة كما يحدُث اليوم مع الاتحاد العام التونسي للشغل، ذلك أن مطالب الجلسة العامة للمحامين التي تبنّاها النقيب الجديد، وفق تصريحات له في وسائل الإعلام المحلية هي مطالب ذات طبيعة سياسية تحرج الرئيس سعيّد وحكومته وتقلّل من مصداقيتهما، ويأتي في مقدّمة تلك المطالب إطلاق سراح سجناء السياسة والإعلام والتدوين والعمل المدني، وإسقاط المرسوم 54 الذي مثّل الأرضية القانونية لوأد الحريات العامة والفردية وله ضحايا بالعشرات يقبعون في السجون التونسية.
وبانتخاب النقيب الجديد وأعضاء مجلس الهيئة الوطنية للمحامين تكون سلطة الرئيس سعيّد قد خسرت ولاء قطاع حيوي وفعال في المجال العام السياسي والقانوني، وعلى علاقة مباشرة بمصالح عامة المواطنين وحياتهم اليومية. وهذا الولاء الذي شكّل مصدرا من مصادر مشروعية حكم سعيّد وسندا له، رغم عدم اعترافه بالأجسام الوسيطة، كان يؤمّنه النقيب المتخلي حاتم مزيو وسلفه إبراهيم بودربالة، وبذلك تتبوأ المحاماة التونسية مقعداً هو أقرب إلى المعارضة منه إلى السلطة الحاكمة.