نقصان الأهلية وليس "الهولوكوست"

نقصان الأهلية وليس "الهولوكوست"

20 اغسطس 2022
+ الخط -

كان في وُسع الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، في زيارته برلين قبل أيام، أن يردّ بغير الإجابة الكارثية على سؤال صحافي ألماني له، ما إذا كان سيعتذر عن عملية خطف فلسطينيين أفراداً من البعثة الإسرائيلية في أولمبياد ميونخ في 1972، انتهت بقتل 11 رياضياً من هؤلاء وخمسةٍ من المنفذين (وشرطي وطيار عسكري ألمانيين). كان في وُسعه أن يقول إنّ "الشعب الفلسطيني يأسَف لقتل أولئك الضحايا، ويأخذ منذ سنواتٍ طرقاً كفاحية أخرى في نضاله من أجل التحرّر من الاحتلال، وإني إذ أقدّر عواطفك الصادقة، والتي أشاركك إياها، تجاه مقتلهم، فإني أدعوك إلى النظر في جريمة قتل خمسة أطفالٍ في مخيم جباليا، للاجئين الذين جرى تهجيرهم في النكبة، في غارةٍ إسرائيليةٍ قبل أيام على فلسطينيين آمنين، وهي الجريمة الموصولة بمثيلاتٍ لها كثيرةٍ سابقاتٍ عليها منذ ما قبل العام 1984". لم يقل عبّاس هذا أو مثله، بل أراد التفاصح، فلمّا أجاب بأنّ هناك قتلى يومياً يُسقطهم الجيش الإسرائيلي، وإنّ 50 مجزرة ارتكبتها إسرائيل تساوي 50 هولوكوست، ظنّ أنّ هذا الكلام يجعل مضيفيه الألمان جزعين مما تفعله إسرائيل. وظنّه هذا الذي ورّطه في ركاكةٍ إعلاميةٍ وسياسيةٍ، شديدة الأثر السيئ على شعب فلسطين ونضاله، شاهدٌ جديدٌ على نقصان أهليّته في الموقع الذي يحتله منذ نحو عقدين رئيساً على شعب فلسطين. ومن بؤس القاع الذي يقيم فيه الحال الفلسطيني الراهن أن يرتجل صحافي ألماني سؤالاً (ليس سخيفاً كما رأى بعضُنا، فالرجل ألماني، وليس عنصراً في جبهة أحمد جبريل)، فلا يقدِر صاحب الولاية العامة على الفلسطينيين، والذي يزاول السياسة والاحتكاك بالعالم منذ أزيد من نصف قرن، أن يصوغ ردّاً خلاقاً. لا تُسعفه قريحتُه ولا مخيّلته في هذا، بل يردّ بجوابٍ كما لو أنه يدردش مع حسين الشيخ أو عبّاس زكي في سهريةٍ في رام الله.
أن يتأتّى لرئيس فلسطين أنّ جرائم الحرب الإسرائيلية المتتابعة منذ نحو 80 عاماً لا تأخذ صفتَها فادحةً إلا بأن نعدّها أشدّ فظاعة من محرقة النازية في اليهود خمسين مرّة هذا دليلٌ مستجدٌّ على أنّ صاحبَنا ليس فقط منقوص الكفاءة في موقع قائد شعبٍ مناضلٍ كابد أهوال المحتلّين وشناعاتهم، بل أيضاً أنّ أداءه، أمام أضواء العالم وإعلامه، يؤذي المكانة الأخلاقية التي يليق بهذا الشعب أن يحرزها نضالُه بين تجارب الشعوب المتطلّعة إلى التحرّر. وهذا مستشار ألمانيا، أولاف شولتز، يغرّد عن شعوره بـ"الاشمئزاز" ممّا سمّاها "التصريحات الفاضحة" للرئيس عبّاس. وهذه الشرطة الألمانية قد تحقّق، بموجب القانون في بلادها، في ما إذا كان ما قاله عبّاس فعلاً يحثّ على الكراهية. ولقائلٍ أن يقول، محقّاً، إنّ "استثماراً" دعائياً مقيتاً يُقوّل الرئيس الفلسطيني ما لم يقُل، وهو الذي اضطرّه بؤسُ كلامه أن يوضِح، تالياً، أنّ الهولوكوست أبشع الجرائم في التاريخ. ولقائلٍ أن يقول أيضاً إنّ خبثاً إسرائيلياً ظاهراً في الموضوع، يأخذ القصّة إلى غير ما هي عليه، للتأليب على الرئيس، وللإساءة إلى شعب فلسطين وقضيته وكفاحه. وفي البال أنّ الصحافة العبرية (والألمانية) استدعت من أرشيف عبّاس أطروحته للدكتوراه من معهد الاستشراق في موسكو (1982)، والتي مالت إلى أنّ عدد الملايين الستة التي يتردّد أنّهم ضحايا المحرقة مبالغٌ فيه.
صحيحٌ أنّ ثمّة هذا الخبث وذلك الاستثمار الدعائي، لكنّ الصحيح، قبله وبعده، إن الفلسطينيين في غنىً عن الاستغراق في معارك كهذه في ساحاتٍ غربيةٍ، من بؤس الراهن المعايَن أن تسجيل الإسرائيليين في أثنائها نجاحاتٍ مؤكّدة محسوم، وأنّ من قلة العقل ألّا يتوقّع واحدُنا إضافة الفلسطينيين في غضونها خُسراناً جديداً، يمسّ صورتهم وحضورهم. يُثبت هذا خبرٌ طيّرته وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا) عن استقبال "أبناء شعبنا الفلسطيني" الرئيس محمود عبّاس، مساء الخميس، استقبالاً حاشداً ومهيباً، إذ التفّت الجماهير الفلسطينية على أطراف الطريق الذي مرّ منه الرئيس قرب المدخل الشمالي لمدينة البيرة، عائداً من زيارة رسمية لألمانيا، تأكيداً على المواقف التي أكّدها سيادته، والتي تعبّر عن طموحات وأحلام شعبنا"... وقد استرسل الخبر في ما يمكن عدّها مباركةً شعبيةً (وفتحاوية!) لـ"كلّ ما صرّح به الرئيس في خطابه وتصريحاته ومواقفه"... هذا بؤسٌ مريعٌ حقاً، لا يجوز أن يُكتفى بالجهر في انتقاده، وإنّما القول أيضاً إنّ رئيس دولة فلسطين لم يعد فقط ناقص الشرعية، وإنما أيضا ناقص الأهلية في مطرحه، ويؤدّي دوراً ضارّاً.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.