نقاش في المغرب عن صحافة غير موجودة
يحتدم النقاش في المغرب منذ أسابيع بشأن قانون مثير للجدل تقدّمت به الحكومة لإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، وهو هيئة يُفترض أن تقوم بالتنظيم الذاتي للقطاع. أدّى المشروع الذي تقدّمت به الحكومة على عجل، وحظي بمصادقة الغرفة الأولى داخل البرلمان المغربي في وقت قياسي، إلى تأجيج الغضب داخل أوساط الإعلاميين والمهتمّين، وأحدث اصطفافاً حادّاً بين مؤيّدين تمثّلهم الحكومة وناشرين مقرّبين من دوائر السلطة، إذ يعتبرون أن المشروع الجديد يهدف إلى إصلاح المشهد الإعلامي، وتعزيز مبادئ الحكامة والشفافية وضمان التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة. لكنّ جبهة معارضي القانون، التي تضمّ بين صفوفها صحافيين وإعلاميين ومدافعين عن الحقوق والحريات، ونشطاء وهيئات مدنية وأحزاباً سياسية، يرون في القانون، الذي تسعى الحكومة إلى فرضه بقوّة أغلبيتها الشكلية داخل البرلمان، انتكاسةً كبيرة لحرية الصحافة في المغرب، ومنعطفاً خطيراً سيؤدّي إلى سيطرة السلطة على القطاع لفرض مزيد من التضييق على الهامش الصغير المتبقّي من حرية التعبير في البلاد.
يتعلق موضوع النقاش المحتدم بإعادة هيكلة مجلس الصحافة الذي أُنشئ عام 2018 بوصفه هيئةً مستقلّةً للتنظيم الذاتي لقطاع الصحافة، وأوكلت له مهمة إصدار بطاقات الصحافة، ومراقبة مدى التزام أخلاقيات المهنة واحترامها. لكنّه، منذ تنصيبه قبل سبع سنوات، ولد ميتاً، لأنه خرج إلى الوجود فاقداً للاستقلالية، بما أن تمويله من الدولة. وبالتالي، تحوّل الصحافيون والناشرون المُمثَّلون به موظّفين لدى الدولة، يأتمرون بأوامرها، ويخضعون لتوجيهاتها. وطوال سنوات عمله تحوّل مكتباً لإصدار البيانات ضدّ تقارير المنظّمات الدولية الحقوقية التي تنتقد أوضاع حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير في المغرب، أو التي تنتقد الاعتقالات التعسّفية التي تعرض لها صحافيون مغاربة، أو الاختلالات التي رافقت اعتقالهم، أو تلك التي شهدتها محاكماتهم.
وُلد مجلس الصحافة في المغرب ميتاً، لأنه خرج إلى الوجود فاقداً للاستقلالية
وفي حالات أخرى، تحوّل المجلس ملحقاً تابعاً لـ"النيابة العامة"، يبرّر اعتقال بعض الصحافيين، ويزكّي الأحكام القاسية التي صدرت ضدّ بعضهم، ويصمت (في المقابل) عن كلّ الانتهاكات التي تطاول المهنة يومياً من صحافة التشهير التي لا تحترم أدنى مبادئ أخلاقيات المهنة، لأنها محمية من جهات نافذة داخل الدولة، لاستهداف الصحافيين المستقلين والمدافعين عن الحقوق والحريات، والمعارضين لسياسات الدولة، من أجل هدف واحد، إخراس كلّ الأصوات المنتقدة، ودفعها إلى التزام الصمت، حتى يتسيّد الرأي الواحد في كلّ القضايا الحسّاسة، كما هو الواقع اليوم.
والواقع أن مجالس الصحافة في العالم، أو ما يسمّى التنظيم الذاتي للمهنة، وُجدت من أجل غايات محدّدة تتمثّل في حماية حرية الصحافة لتقوم بدورها سلطة رقابة مستقلّة، تضمن التزام الصحافيين بأخلاقيات مهنتهم، حفاظاً على مصداقيتها، وتراقب وسائل الإعلام، وتحاسبها أخلاقياً عندما تخطئ للحدّ من تطاولها على الحياة الخاصّة للأفراد والأمن العام للمجتمعات. وفي أغلب تجارب الدول الديمقراطية في أوروبا، خصوصاً في الدول الاسكندنافية، وفي هولندا وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا وكندا، بل حتى في جنوب أفريقيا، تتميّز هذه المجالس بأنها مستقلة تماماً عن الدولة، تمويلها ذاتي من الصحافيين ومن المؤسّسات الإعلامية، والانتماء إليها، والعمل داخلها، يكون تطوّعياً، وتمثيليتها موزّعة ما بين ممثّلين عن الصحافيين المهنيين وعن الناشرين وعن الجمهور. وبما أنها تعتبر مرجعاً أخلاقياً، وليست محاكم قضائية، فإن قراراتها تكون ردعيةً ذات قوة رمزية وأخلاقية بالدرجة الأولى، وتأثيرها معنوي، لكنّه قوي، نظراً لما تحظى به من تقدير واحترام وثقة بين المهنيين والجمهور، ولدى باقي السلطات داخل البلد نفسه.
أمّا النموذج المغربي، في صيغته الحالية، وتلك التي يقترحها القانون الجديد، فهو شاذٌّ بكل معنى الكلمة، لا مثيل له بين تجارب الدول التي تعتبر رائدةً ومرجعيةً في هذا المجال، من حيث الاستقلالية والفعالية وحماية حرية التعبير واحترام أخلاقيات المهنة، فمجلس الصحافة المغربي في صيغته الحالية، وتلك المرتقبة، ليس مستقلّاً بالكامل، بما أن تمويله من الدولة، وثلث أعضائه يمثلون أجهزتها ويجري تعيينهم، والثلث المُعطِّل داخله (صاحب فيتو) يمثّله الناشرون الذين يُنتدبون حسب أرقام معاملات مؤسّساتهم الإعلامية، المدعومة أصلاً من المال العام، والثلث الباقي (الشكلي) المنتخب عبر اقتراع فردي مباشر، هو الذي يمثّل الصحافيين.
القانون الجديد عندما يُصبح نافذاً سيحوّل مجلس الصحافة هيئةً للضبط الذاتي وليس للتنظيم الذاتي، وسيحوّل الصحافيين والناشرين المُمثَّلين داخل أجهزته "دركيّين"، يحدّون من هامش حرية ممارسة باقي زملائهم، ومن هنا تأتي أهمية النقاش الدائر حالياً حول تغيير آلية انتخاب هذا المجلس ومراجعة صلاحياته، لكن حتى يكون هذا النقاش فعّالاً ومنتجاً يجب أن يركّز في الجوهر، أي توفير شروط استقلالية المهنة، ووجود ضمانات لممارسة حرية التعبير، من دون خوف أو رقابة ذاتية، وبعيداً عن كلّ تزلّف أو تملّق، ووجود صحافيين مهنيين ومستقلين واعين بمسؤولية الرسالة التي يحملونها، وجمهور متيقظ مستعدّ للدفاع عن حقّه في الإعلام والإِخبار كلّما تعرّض هذا الحقّ للمصادرة أو التلاعب أو التضييق.
قضت السلطة تدريجياً على الصحافة الحقيقية، وأفسحت المجال لصحافة علاقات عامّة لا تزعج ولا تؤثّر
فالحرية هي مكتسب للجميع، لكن ليست كلّ المكتسبات مضمونةً، حتى في الدول الديمقراطية، وأنجع طريقة لصيانة الحرية هي ممارستها. وقبل هذا كلّه، وذاك، لا داعي للتذكير بوجوب وجود صحافة حقيقية بمعايير مهنية وسلطة أخلاقية، وهذه (مع الأسف!) غير موجودة اليوم في المغرب، قضت عليها السلطة تدريجياً طيلة السنوات الماضية بالمحاكمات والقوانين الزجرية والتضييق على مصادر التمويل، وبالحدّ من هامش الحرية، بينما أفسحت المجال لنمو وترعرع صحافة علاقات عامّة لا تزعج ولا تؤثّر، و"صحافة" أخرى شاذّة متخصّصة في التشهير، مرتبطة بأجهزة أمنية، موجّهة ضدّ كلّ الأصوات الحرة والمستقلة، لفرض الرأي الواحد.
ترتبط حرية الصحافة في جلّ الدول بسلامة الممارسات الديمقراطية داخل هذه الدول، وفي المغرب حيث توجد ديمقراطية شكلية فما يوجد هو شبه صحافة. وفي السنوات الماضية، تأثّرت هذه الصحافة بالتغيّرات التي أحدثتها تقنيات التواصل الجديدة، وبقدر ما استفادت منها أضعفتها في الوقت نفسه، لأنها أفسحت المجال لهيمنة خطاب شعبوي سارعت الجهات المعادية للديمقراطية ولحرّية الرأي والتعبير إلى استغلاله، لضبط المجتمع وتوجيه الرأي العام، وفرض نوع من الرقابة الجماعية بطريقة ميسورة وبوسائل مالية وسياسية غير مكلفة، ما أدّى إلى تقوية بنية الاستبداد، وتفشّي الفساد داخل الدولة والمجتمع. وفي ضوء المخاطر القائمة، التي تهدّد ما تبقّى من هامش حرية الرأي والتعبير داخل البلد، تتطلّب الحلول المستعجلة والفعّالة تضافر جهود القوى الحيّة كلّها داخل المجتمع، لوقف زحف هيمنة الاستبداد والفساد على حرية التعبير، التي تعتبر آخر متراس للدفاع عن حرّية الصحافة قبل السقوط المدوّي إلى القاع.