نظام القواعد المنحازة في الأمم المتحدة

نظام القواعد المنحازة في الأمم المتحدة

08 يونيو 2022

مندوب روسيا، فاسيلي نيبينزيا، يرفع يده اعتراضاً في مجلس الأمن(25/2/2022/ فرانس برس)

+ الخط -

بعد اجتياح روسيا أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، تم، في اليوم الموالي، تقديمُ مشروع قرار إلى مجلس الأمن لإدانة روسيا، غير أن صياغته كانت منحازة وبعيدة عن روح الميثاق، فقد استندت على المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على مبدأ عدم استعمال القوة ضد أراضي دولةٍ ذات سيادة، بدلًا من الاستناد على الفصل السابع الذي يتيح استخدام القوة في إطار نظام الأمن الجماعي، كما حدث مع العراق إثر غزوه الكويت في 2 أغسطس/ آب 1990، حينما أشار قرار مجلس الأمن رقم 660، الصادر في اليوم نفسه، إلى المادتين 39 و40 من الفصل السابع. بل أباح قرار مجلس الأمن رقم 678، الصادر في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1990، استخدام جميع الوسائل الممكنة، لإرغام العراق على الانسحاب من الكويت، بما فيها القوة العسكرية. وخلافًا لهذا المسعى المتحمّس، آنذاك، لنظام الأمن الجماعي، صيغ مشروع القرار المقدَّم إلى مجلس الأمن لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا بصيغةٍ لا تمنع روسيا من استخدام حق النقض (veto) لإبطاله، فقد تجنّب مشروع القرار الإشارة إلى الفصل السادس، المتعلقّ بحل النزاعات بطرق سلمية، لأن المادة 27 من الميثاق تمنع الدول الأطراف في النزاع من التصويت، عندما يتعلق الأمر بمشروع قرار يستند إلى هذا الفصل. وهذه حيلة قانونية ظهر فيها واضحًا سعي الولايات المتحدة، التي صاغت المشروع، إلى تجنيب روسيا ما انطبق على العراق، ومراعاة عدم المواجهة معها، رغم أنه كان متوقَّعًا تصويت روسيا ضد هذا القرار، سواءٌ بصيغته المُلَطَّفة أو بصيغة أخرى أكثر صرامة [1]. ولما تمكّنت روسيا من استخدام هذا الحق، لم يتمكّن مجلس الأمن من اعتماد مشروع القرار. وفي تعليقه على صيغة مشروع القرار، ذكر المبعوث الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة أن الذين صاغوا هذا المشروع "حاولوا إعطاء نظرةٍ تشبه، إلى حد بعيد، وثيقة متوازنة"، ولعله يقصد "بالتوازن" عدمَ إدراج مشروع القرار تحت بنود أحد الفصلين السادس أو السابع من الميثاق.[2]

وبعد تعذّر تمرير قرار الإدانة في مجلس الأمن، جرى اللجوء إلى الجمعية العامة، بالرغم من أن قراراتها غير ملزمة في هذا الشأن، فالقرار الذي جرت الموافقة عليه في 27 فبراير/ شباط 2022، بأغلبية 141 صوتًا، لم يتضمن هو الآخر أي إشارة إلى أحد الفصلين، السادس أو السابع، أو إلى أي أعمال قسرية تجاه روسيا، بل اكتفى بإدانة غزوها أوكرانيا، مذكّرا بمبادئ الأمم المتحدة الواردة في المادة الثانية من الميثاق. وقد جاء هذا القرار مُشابِهًا لقرار سابق صدر عن الجمعية العامة في 27 مارس/ آذار 2014 لإدانة ضم روسيا شبه جزيرة القِرم، حين اكتفى هو أيضًا بالإشارة إلى المبادئ الواردة في المادة الثانية من الميثاق.[3] وقد صدر هذا القرار عن الجمعية العامة بعد استخدام روسيا حق النقض، في 15 مارس/ آذار 2014، ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يدين غزوها جزيرة القِرم.[4]

ما يجري اليوم من "مساومات" في دواليب الأمم المتحدة يدلّ على أن تحيز القانون الدولي قد أفسد براءةَ القانون الطبيعي ومبادئه الحرّة

والواقع أن ميثاق الأمم المتحدة لم يرد فيه ذكرٌ لما يُصطلح عليه اليوم بحق النقض (veto)، فالفقرة الثالثة من المادة 27 من الميثاق تشترط في صدور قرارات مجلس الأمن، في المسائل غير الإجرائية، موافقة أصوات تسعة من أعضائه الخمسة عشر، يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة. وهذا يعني أن مجرّد الامتناع عن التصويت يُعَدّ كافيًا لإبطال صدور قرار في مجلس الأمن، من دون الحاجة إلى الاعتراض صراحة على مشروع هذا القرار. غير أن العمل في المجلس استقرّ على أن الامتناع عن التصويت لا يُعدّ اعتراضًا، وأن الاعتراض يلزم أن يجري بالتصويت ضد مشروع القرار. وفي هذا تعديل لنص هذه الفقرة بواسطة عُرفٍ وضعه الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن بمحض إرادتهم المنفردة، وتابعهم في ذلك بقية الأعضاء في الأمم المتحدة، من دون معارضة. ولمّا جرى تعديل المادة 27 من الميثاق بقرار صدر عن الجمعية العامة في ديسمبر/ كانون الأول 1963، يقضي بزيادة عدد الأصوات المطلوبة لاعتماد قرارات مجلس الأمن من 7 إلى 9، لم يتم تعديل طريقة اعتراض أعضاء المجلس على مشاريع القرارات، المبينة في هذه المادة، بالرغم من أن العمل أصبح مخالفًا للنص.[5]

ورغبةً منها في إصلاح جزء من هذا الخلل التشريعي المنحاز، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 26 أبريل/ نيسان 2022، مشروع قرار تقدّمت به دولة ليشتنشتاين (Liechtenstein)، يُلزم رئيس الجمعية العامة أن يدعو الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى اجتماعٍ خاص، في غضون عشرة أيام من استخدام أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن حقّ النقض، وذلك لعرض (ومناقشة) الأسباب التي دعته إلى استخدام هذا الحق.[6] وحيث إن هذا القرار غيرُ ملزِم، كما هي أغلب قرارات الجمعية العامة، فيمكن لأي عضو من الخمسة الدائمين، استعمَلَ حق النقض، ألاَّ يستجيب لدعوة رئيس الجمعية العامة المثول أمامها لشرح دوافعه. وعلى الرغم من الأهمية النظرية لهذا الإجراء، فإن دولًا كثيرة لم تدعمه، مثل روسيا والصين والبرازيل والهند. وقد تكُون روسيا هي المستهدَفة بهذا القرار لكثرة لجوئها إلى حق النقض في مجلس الأمن لتعطيل مساعيه في إدانة انتهاكاتها القانون الدولي، سيما في سورية وأوكرانيا.

في ظل هذا الوضع القانوني المضطرب، تبدو المطالب العربية المعروضة على مجلس الأمن مجرّد محاولات استجداء فاشلة أمام "فيتو" مسلَّط عليها بالدوام. ولن تنال القضايا العربية حقها في العدالة والإنصاف إلا إذا استجارت بمبادئ القانون الطبيعي بدلًا من وثوقها الخادع في القانون الدولي، فالعدوان لا يُدفع بالنصوص القانونية المنحازة، بل يُرَدُّ بقوة القانون الطبيعي (Lex Naturalis) ومبادئه المتوافِقة مع الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية، كالحق في الدفاع عن النفس ومقاومة المعتدين، والحق في الكرامة والحرية، والحق في الأرض والوطن.[7] وقد علَّمنا التاريخ أن تحرير البلاد المستعمَرة ودفع العدوان عنها لم يكن يجري عبر المساومات السياسية والمطالب القانونية، بقدر ما كان يتَأَتَّى بقوة السلاح، فتحرير الأوطان قد تحقق، عبر التاريخ، بفضل المقاومة المسلحة وحركات التحرّر الوطنية وجيوش التحرير الشعبية، التي لم تستأذن من أحد في منظمة دولية أو جهة نافذة، تساومها على حقوقها الطبيعية، وتُشهر في وجهها "فيتو" يدعم العدوان عليها.

تساؤلات بشأن جدوى منظمة الأمم المتحدة، وحول حقيقة علاقتها بالسلم والأمن الدوليين

ما يجري اليوم من "مساومات" في دواليب الأمم المتحدة يدلّ على أن تحيز القانون الدولي قد أفسد براءةَ القانون الطبيعي ومبادئه الحرّة. وقد فطن الخمسة الكبار، خلال نقاشاتهم التحضيرية لإنشاء منظمة الأمم المتحدة، إلى أهمية القانون الدولي سلاحا ثانويا يمكن الاستعانة به للإيقاع بالأطراف الساذجة التي تثق في قدرته على حل النزاعات وتحقيق السلم والأمن. لذا، أسّسوا النظام الدولي لِما بعد الحرب العالمية الثانية على قواعد منحازة لطموحاتهم في الهيمنة والتحكّم، فصدَّقها الضعفاء، والتزموا بها بتوقيعهم على ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص في المادة 25 على تجريدهم من كل إرادة أمام ما يقرّره مجلس الأمن، بما يشبه التوقيع على بياض، في أكبر عملية تدليسٍ شهدها العصر الحديث. وبهذا، يمكن اليومَ لدولةٍ واحدةٍ تستخدم حق النقض في مجلس الأمن أن تعطّل إرادة 192 دولة في الأمم المتحدة، لمجرّد رفع مندوبها الدائم يده للتصويت بالرفض، رغم أن هذا الوضع لا يمتّ إلى مبادئ الديمقراطية بِصلة.[8] فمنذ إنشاء الأمم المتحدة استخدَم الاتحاد السوفياتي وروسيا بعده هذا الحق 120 مرة، بينما استخدمته الولايات المتحدة 82 مرة، منها 32 مرّة في تأييد إسرائيل ضد القضية الفلسطينية، و14 مرّة في تأييدها ضد دول عربية أخرى، كسورية ولبنان وليبيا، فيما مجموعه 46 مرّة، أي أنها استعملت 56% من عدد مرّات الاعتراض لتأييد إسرائيل، بأكثر مما استعملته في تأييد قضاياها الأخرى. كما استخدمت الصين حق النقض 17 مرّة، وبريطانيا 29 مرّة، وفرنسا 16 مرّة.[9] يبيِّن هذا الاستخدام التعسفي لحق النقض أن الدول القوية تستند، بشكل تحكّمي، إلى قواعد منحازة، استقرّ العمل بها في النظام الدولي، حتى أصبح نظامًا قائما على القواعد المنحازة، (Rules-biased international order)، وهي الصيغة الحقيقية لما يسمّى اليوم النظام القائم على القواعد (Rules-based international order) الذي يتغنّى به مسؤولو السياسات الخارجية في الدول الكبرى، في معظم خطاباتهم.

عدم قدرة مجلس الأمن على منع الاعتداء على دولةٍ ذات سيادة استُخدمت ضدّها أعمال مسلّحة أو حصار أو عقوبات غير مشروعة، ووقوف الأمم المتحدة، بكل أجهزتها ووكالاتها وبرامجها ونظريات السلم والأمن التي نوقشت في منتدياتها، وبكل ترسانتها القانونية، عاجزةً عن صدّ العدوان أو معاقبة المعتدي، لَيَفتح مجالًا للتساؤل بشأن مدى جدوى هذه المنظمة، وحول حقيقة علاقتها بالسلم والأمن الدوليين، فقد أوشك دورها أن يقتصر على تسجيل المعاهدات وإصدار البيانات والتصريحات، والتعبير عن القلق والانشغالات كلّما تعرّضت مبادئها للانتهاك. عجز هذه المنظمة عن إيقاف العدوان بناءً على نظام الأمن الجماعي الذي تبشّر به في الفصل السابع من الميثاق راجعٌ إلى أنها أنشئت لتكون أداةً في يد الخمسة الكبار، يتحصّنون بها لحماية مصالحهم، خصوصًا عند قيام أحدهم بعملٍ ينتهك قواعد القانون الدولي، كاجتياح دولة ذات سيادة، والقتل خارج القانون. فهذه الدول التي تُعِدُّ نفسها منتصرة دائما في حرب عالمية انتهت منذ عقود، اتخذت لنفسها، بمحض إرادتها الغالبة، حقًا أبديًّا في إبطال كل مشروع قرار في مجلس الأمن لا يتوافق مع مصالحها. وهي عقدة الانتصار التي يعتقد أصحابها أنهم، بعد الفوز العسكري، يصبح لديهم الحقّ في الفوز بكل شيء.


المراجع:

[1]  صاغت الولايات المتحدة مشروع القرار وقدمته، بمعية ألبانيا، إلى مجلس الأمن. ينظر مشروع القرار في:

الأمم المتحدة، مجلس الأمن، (S/2022/155)، 25-02-2022، شوهد في: 01-05-2022 في: https://bit.ly/3NbYyXM 

[2] United Nations, “Security Council Fails to Adopt Draft Resolution on Ending Ukraine Crisis, as Russian Federation Wields Veto”, 25 February 2022, accessed on: 01-05-2022 at: https://bit.ly/3GCTRni

[3] United Nations, General assembly, “Resolution adopted by the General Assembly on 27 March 2014”, (A/RES/68/262), 01 April 2014, accessed on: 26-04-2022 at: https://bit.ly/3M6GsFb

[4] ينظر مشروع القرار المقدم إلى مجلس الأمن في:

United Nations, “Security Council”, (S/2014/189), 15 March 2014, accessed on: 26-04-2022 at: https://bit.ly/3m7Pl72

[5] United Nations, “United Nations Charter: Amendments to Articles 23, 27, 61, 109”, accessed on: 01-05-2022 at: https://bit.ly/3sXhAZZ

[6] United Nations, “General Assembly Adopts Landmark Resolution Aimed at Holding Five Permanent Security Council Members Accountable for Use of Veto”, 26 April 2022, accessed on: 28-04-2022, in: https://bit.ly/3N6t7hC; United Nations, General assembly, “Resolution adopted by the General Assembly on 26 April 2022”, (A/RES/76/262), 28 April 2022, accessed on: 28-04-2022 at: https://bit.ly/3M1qNXD

[7] تمت الإشارة إلى الحقوق الطبيعية كمرجعية أساسية في العديد من إعلانات الاستقلال ومواثيق حقوق الإنسان، مثل وثيقة إعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1776، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر إبان الثورة الفرنسية في عام 1789، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان لعام 1948، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.

[8] تنص المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة على الآتي: "يتعهد أعضاء "الأمم المتحدة" بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق هذا الميثاق". ينظر نص الميثاق في: الأمم المتحدة، ميثاق الأمم المتحدة، شوهد في: 30-05-2022 في: https://bit.ly/3t80wAw

[9] Dag Hammarskjöld Library, “Security Council Veto List”, accessed on: 01-05-2022 at: https://bit.ly/3lUKtlv

عبد اللطيف المتدين
عبد اللطيف المتديّن
أكاديمي وباحث مغربي، مختص في القانون العام والعلوم السياسية