نساء نصَّابات

نساء نصَّابات

13 يناير 2021

(بابلو بيكاسو)

+ الخط -

كان ممكناً أن يصير العنوان أعلاه بكلمات أخرى، مثل "نساء صغيرات"؛ تيمُّنًا برواية الأميركية لويزا ماي ألكوت، والتي تتبَّعت حياة أخوات عائلة مارش الأربع اللاتي كنَّ يعشن مع أمِّهن، خلال الحرب الأهلية، وبعد مرض والدهن، أصيبت إحداهن بحمّى، وبدأت العائلة تمرُّ بضائقةٍ مادّية، إلى أن تمكَّنت الأخوات الثلاث الباقيات من بناء حياة سعيدة لأنفسهن؛ بسعيهن وكدِّهن، واستغلال ما يملكن من قدرات ومواهب.

ولكن الحديث هنا عن النساء النصَّابات، اللاتي خرجن من عباءة الفقر، بالتأكيد، مثل أخوات عائلة مارش، ولكنهن خرجن، أيضًا، من عباءةٍ مهترئةٍ لأسرةٍ لا تقيم وزنًا لقيمٍ، ولا أخلاق، وربما كان الأب محدود الدخل، قليل الحيلة، والأم لديها أحلامها وتطلُّعاتها، وترى ابنتها التي كانت تلهو يومًا بدميتها قد أصبحت شابَّةً جميلةً بقوام بديع، ووجه جميل؛ فتقرِّر مع الأب استثمار هذه المنحة المجَّانية، والنتيجة أن تصبح الابنة سلعةً يتاجر بها الوالدان؛ بغرض كسب المال، وبعد أن وجدت الفتاة مؤهِّلات طبيعية، وعوامل مساندة وداعمة، فتوفَّرت النواة والأداة.

في زمنٍ مضى، كنَّا دائمًا نسمع عن نساءٍ وقعن ضحيَّة النصب والابتزاز والاستغلال من الرجال. وفي حادثةٍ لا أنساها، قتل أحدُهم صديقه المقرَّب؛ لأن هذا الصديق أراد أن يتباهى، أمام صديقه، بأنه "جان"، حسب مسمَّيات الشاب المتعدِّد العلاقات؛ فأبرز أمامه صورة فتاةٍ وقعت في غرامه، وأهدته صورتها (بالأبيض والأسود، بالطبع)، فإذا بها صورة شقيقة الشاب الذي انهال طعنًا على صديقه.

الحادثة، أو الحكاية، ظلَّت، فترة طويلة، حديث المجالس في بيوتنا، وحذَّرتنا أمهاتنا من مغبَّة التفريط بصورةٍ شخصية، مثل صورة الشهادة المدرسية؛ لأنها قد تقع في يد أحدهم، فيستغلُّها أسوأ استغلال، فحتى وقتٍ قريبٍ كانت صورة المرأة مقدَّسة. ومع الانفتاح الكبير، على عالم "السوشيال ميديا"، أصبحت صور النساء منتشرةً ومباحةً ومستباحة، وأصبح الممنوع مسموحًا، بل وتباهى الآباء والأمهات بنشر صور بناتهم، ولم تعد الصورة مَجْلَبة للعار. ومقابل ذلك تطوّرت آليَّات النصب من الجنسين، وتزايدت حوادثها بسبب عدم وصول معظمها إلى القضاء.

وظهرت حالاتٌ ليست قليلة لنساء يمتهنّ النصب، ويقع الأزواج والرجال عامة ضحايا، وكأن بعض النساء قد قرَّرن فعلًا الانتقال من خطَّة الدفاع إلى موقع الهجوم، فليس ببعيد خبر تعرُّض شبابٍ للابتزاز من فتاة استدرجتهم، من خلال مواقع الإنترنت، وحصلت على صور لهم، في أوضاعٍ مخلَّة، وباتت تهدِّدهم بفضحهم، إن لم يرضخوا لطلباتها، وهي تحويل مبالغ مالية لها، بطرقٍ مختلفة، بحيث تكون في وضع الأمان. ولذلك أنت اليوم ترفع حاجبيك، دهشةً أمام تقدُّم رجالٍ قلة ببلاغاتٍ عن تعرُّضهم للنصب من النساء، في صورةٍ معكوسةٍ لما اعتدنا عليه، وهو نصب الرجال على النساء. وهناك حالاتٌ مسجَّلة لقيام نساء بعمليات نصب، تحت مسمَّى الزواج، والحصول على أموال، على شكل مهر وهدايا، ثم افتعال المشكلات والحصول على الطلاق، والنتيجة أن يتنازل الشاب عن ماله؛ لكي ينفد بجلده، وتُكرِّر الفتاة السيناريو نفسه مع شباب آخرين.

بكلِّ أسف ومرارة، تكتشف أن كسْبَ المال الذي ليس جريمة، بكلِّ المقاييس، ولكنه هدفٌ يتطلَّب السعي والتعب والمثابرة، قد أصبح غاية، واللهاث وراء الكسب السريع غدا حذاقةً، فانبثقت عمليات النصب التي يقوم بها الجنسان، ومع شهوة الكسب السريع، هناك الأداة المتاحة لذلك، وهي عدم وجود خصوصيةٍ في حياة الإنسان، بحيث أصبح صيدًا سهلًا، من خلال عالمٍ تحوَّل قرية صغيرة، ليست هادئة ولا هانئة، ولكنها قرية من المستغلِّين وضعاف النفوس والمبتزِّين، والباحثين عن الشهرة، على حساب الآخرين، فالثغرات الكثيرة تجعل الفأر يصفِّق زجلًا، بأنه سيحصل على قطعة الجبن، بلا تعب، بعد أن استهنَّا بعاداتنا وتقاليديا وقيمنا، وبعد أن كان الأب "يخطب لبنته"، إن رأى في عامل، أو أجير لديه، خيرًا؛ من صلاح وخلُق، تحوَّل الأب مع ابنته إلى القنص والاصطياد، معزَّزين بصور زائفة، في عالم زائف.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.