نساء الطابق السابع

28 فبراير 2025
+ الخط -

عند حافَة نافذة الطابق السابع، تقفُ نساءٌ كثيراتٌ متأرجحات على خيطٍ رفيع يوشكنَ الوقوع عنه. ماذا تفعل إحداهنّ هناك؟... سؤال بديهي، لكنّ الجواب طويل البال: لا يسهل تحميل جهة واحدة مسؤولية "وقوع" الشابة المصرية آية عادل من نافذة بيتها في الطابق السابع، رغم أنّ المؤشّرات كلّها تُوقِع الملامة على زوجها الذي عاشت معه تجربةً مريرةً من الأذى الجسدي والنفسي.
في العنف بين الرّجال والنساء، مهما كان المعتدي رجلاً أو امرأة، لا يُمحى وجود الشّخص الآخر بإزهاقِ روحه، بل يحدث عند أول بادرة عدوانية، أو أول تجاوز لمساحة الخصوصية، التي لا تشمل كرامته وحرّيته فحسب، بل تمتدّ إلى راحته وحميميته. وقد قدّم المسلسل الأسترالي، الذي أحدث ضجّةً عالميةً "يا غزالي"، نموذج المفترس الجنسي غير الجسدي، وهو الشخص الذي ينتهك حرّية طرف آخر وكرامته. وحتّى لو كانت المعادلة مختلفةً هنا، والضحية فيها رجل، والمرأة هي المُعتدي، فهي معادلة صحيحة، رغم أن سبب خلقها للضجّة هو كسرها لنمطية المُعتدي والضحية، في الأطراف "المعتادة ضحيَّتها".
إذ لا تُثير قصّة امرأة تتعرّض للترصّد هذا الاهتمام كلّه. رغم أن مُتلازمة الضّحية أكثر ارتباطاً بالمرأة، لأنّها الطرف الأضعف في المجتمع، فيما يستقوي الطّرف الآخر لأسباب عديدة، منها في حالة الزوجات المعنَّفات غياب الاستقلال المادّي، وقد يكون مصير الأولاد، وقد يكون السبب وجود بذرة ضحية داخل شخصية هذه المرأة، بحيث إنها حتى لو امتلكت الأسباب الممكّنة كلّها من رفض دور الضحية، فلن تفعل. وهذا ما حدث مع قصّة بطل المسلسل القائم على قصة حقيقية، فالمرأة هنا لا تملك سلطةً ظاهرةً، فلا هي غنيّة، ولا هي ذات نفوذ على الضّحية، فتمسك عليه ممسكاً. لكنّ نقطة قوّتها أنّها امرأة مجنونة لا تملك ما تخسره.
وكان يمكن أن يمرّ "وقوع" الشابّة المصرية آية عادل من الطابق السابع، بصوت خافت في مساحة ضئيلة في قسم الحوادث، لولا وسائل التواصل، التي منحت موتها معنىً، بعد أن تيسّر للناس أن تراها وتتعرّف إليها، وتحزن من أجلها. وأتاحت التكنولوجيا أن تصوّرها كاميرا الجيران مُثبتةً وجود شخص قرب النافذة التي "وقعت" منها. رغم أن الناس لا "تقع" من النوافذ ما لم تكن في وضعية تُعرّضهم لذلك مثل تسلّقها من أجل تنظيفها على سبيل المثال. لا تُظهِر الكاميرا ما يشير إلى ذلك، ولا تحسم احتمال دفعها كما يقول المشكّكون، لكن ماذا يفعل شخصان عند نافذة سقط منها أحدهما؟
هناك شخصياتٌ قابلةٌ لأن تستجيب لبروفايل الضحية، يستشعِرها المعتدون. فبطل مسلسل "غزالي" يصبح ضحيةً لأكثر من طرف. بمعنى أنه لا يملك القدرة على المواجهة، أو الاستماع إلى حدسه الأول. فهو يفترض أن الطبيعي ألا تحدُث هذه الأمور، ومن ثم يمكن تلافي مواجهة المعتدي رغم الإشارات الأولية الكاشفة لعنف الشخص الآخر.
من ملامح آية عادل تبدو الوداعة ظاهرةً، ولعلها دُجِّنت من الأُسرة، لتحمل بؤس العالم بأقلّ قدر من الاصطدام. وهي ومثيلاتها خرّيجات أُسرٍ قائمةٍ على القمع، يحتجن إلى بيئة آمنة تحمي فيها الأُسرة والمؤسّسات الاجتماعية النساء الأكثر هشاشة. مع العلم أن هذه الهشاشة قد تتحمّل الأسرة المسؤولية عنها بالتّدجين التام.
لهذا، رغم وجاهة الأصوات التي تقول إن على ضحايا العنف الزوجي مفارقة الزوج المُعنِّف مهما كان الثمن، لكنّها تتجاهل العوامل الاجتماعية والنفسية والمالية لوضع الضحية التي لا تقوم من نومها في أحد الأيام، وتفتح الإعدادات، وتضع نفسها في وضع "ضحية" بشكل دائم، كما تضع هاتفها في وضعية "صامت"، بل يُبنى وضع الضحية بالتدريج، قطعةً قطعة.
ورغم أن الوضع أفضل في المجتمعات المتقدّمة، التي تملك قوانين ومؤسّسات داعمة كرامة المرأة، لكنّ النساء يُقتلن بكثرة هناك أيضاً. صحيح أن ذلك يحدث كثيراً في فئات فقيرة أو محدودة التعليم، لكن هناك رجالاً متعلّمين، وربّما جاؤوا من عائلات غير عنيفة، ومع ذلك لا يتردّدون في تعنيف النساء، منهم من لم يعرفهم الآخرون كائناتٍ عنيفةً، ويتكشّف جانب الوحش فيهم عند الزواج، فتكون الزوجة الضحيةَ الوحيدة لهم.

عائشة بلحاج
عائشة بلحاج
عائشة بلحاج
رئيسة قسم الثقافة في "العربي الجديد"، صحافية وشاعرة مغربية.
عائشة بلحاج