نخبة ما بعد الديكتاتور .. العراق مثالاً
حين ألقى طه حسين عمامتَه هاجِراً أزهريته، وَضعَ علامةَ زمنٍ جديد. كانت ملامح ذلك الزمن باديةً قبل جيله بقليل، لكنّ عميد الأدب العربي استطاع أنْ يكون حجرَ الزاوية في المدوّنة العربية... بعد زمن الجدل المصري ذلك، في النصف الأول مِن القرن العشرين، جاء الربع الأخير منه مرحلةً مهمةً في المدوّنة نفسها. لقد ظهرت في تلك الخمسة وعشرين عاماً ملامحُ عملية مراجعة جادّة للفكر والتراث والمعرفة. أسماء محمد عابد الجابري، محمد أركون، عبد الله العروي، صادق جلال العظم، نصر حامد أبو زيد، جورج طرابيشي.. وأسماء أخرى هي أمثلةٌ قامت بقراءات ومراجعات جادّة للتاريخ الساكن في الحاضر. لكن جلّ الفكر العربي، خلال آخر خمسة وعشرين عاماً، لم يُقارب السياسةَ المعاصرة مقاربةً واضحة. ظل الجلُّ مسكوناً في التراث وساكناً في نقده، ربما كتّاب مثل إدوارد سعيد وبرهان غليون كانوا أقليةً مشتغلة في شؤون الحاضر. وليس غريباً أن آخر مفكرين مؤثرين اشتغلوا بالتأسيس السياسي العقدي للحظة الراهنة كانوا عقائديين، مثل ميشيل عفلق وسيد قطب ومحمد باقر الصدر. هؤلاء عاشوا بين زمني الجدل المصري ونقد التراث الإسلامي أو العربي. جلّهم برز في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، وانتهى تقريباً في سبعينياته. هي فترة صعود الجمهوريات القومية والتأسيس لها وأيضاً صعود معارضي القومية والتنظير لإسقاط آيديولوجياتها.
وفي الأقلية المقابلة للعقائديين المؤثرين، يمكن ذكرُ علي الوردي مثالاً مهماً على مَن استمر ثم توقف فجأة. الوردي ألّف آخرَ جزء من كتابه اللمحات عام 1978، توقف عن التأليف بعد ذلك، واكتفى بمقالاتٍ قليلةٍ ومتابعة طلابه في جامعة بغداد. هي علامةٌ على أن دكتاتوريات الأنظمة أو الطوائف أطبقت على بلدانٍ، مثل مصر والعراق وسورية ولبنان. غاب النظرُ إلى الزمن المُعاش. وبالتزامن، ظل الجميع مسكوناً في التراث، أو لجأ كثيرٌ إلى الأدب بديلاً، لا أثمان تدفع للخوض فيه أو به.
العراق هنا يمثل أكثر البلدان الناطقة بالعربية أنموذجاً. والسبب أنه عاش مرحلةً اختصرت الحرب المستمرة والعسكرة والاستبداد والشمولية، ربما شابه مصرَ في ستينيات القرن الماضي وخمسينياته. مع فرق مهم أن جمال عبد الناصر المستبد لم يكن صدّاماً، ومصر المفتوحة على العالم جغرافياً وتاريخياً ليست العراق. فضلاً عن هذا، غادر المصريون المرحلة مسرعين إلى جدلهم المحلي الخاص، على الرغم من استمرار جمهوريتهم العسكرية. العراق مع ثورة تموز 1958 وحتى سقوط نظام صدّام حسين واحتلال بغداد، عاش عُقدتَه متداخلةَ التأثيرات وكثيرةَ التفصيلات..
أمر آخر، أظنه جوهرَ الإشارات إلى الاختلاف بينه وسواه. العراق منذ نهايات العقد السادس مِن القرن العشرين، وتحديداً بعد صعود العسكر، فقد الفكرَ لصالح الشعر، المعرفةَ لصالح الأدب، والعاطفةَ لصالح المنطق. مرحلة المفكرين الدارسين في الغرب بدأت نهاياتُها مع ثورة تموز عام 1958. العراق بعد مرحلة التحوّلات الفكرية والنقدية تلك بات قصائدَ، مع بعض المساعي السردية.
يكتب الشاعر والناقد فوزي كريم عن تلك المرحلة في مقدمة كتابه "تهافت الستينيين"، واصفاً ستينيات القرن الماضي من تلك المرحلة بأنها عهد "الشياطين"، ومقتبساً ذلك من رؤية دستويفسكي إلى شياطين روسيا. قصَد بالشياطين أولئك الأيديولوجيين ممن ورّطوا البلد في محنة غياب العقل. أظنه كان مصيباً في تصنيف الجانب الآيديولوجي، لكنه أغفل فكرة أن تلك الحقبة هيمن عليها واستبد بها الشعرُ على حساب الفكر. لم يُعرف العراق ثقافياً في تلك المرحلة إلا عبر شعرائه. ومنذ التسعينيات، لا يَعرفُ محيطُ العراق عن شعر جاره العراقي الكثيرَ. دخل البلد عزلته. لكن، مع تلك العزلة، بدأ أمرٌ في الظهور.
في غياب المعارضة الحزبية، كانت النخب غير المتحزبة مديرةً دفّة المواجهة ضد منظومة طائفية ومشبعة بالفساد
خلال تسعينيات القرن الماضي، شقّ جيلٌ نخبوي جديد طريقَه، هو جيل الاستنساخ. وسط الحصار الاقتصادي ومَنْع بعضِ الكتب، ظهرت مجموعة من الشبان، لتحصل على ما هُرّب من كتبٍ مؤلفة أو مترجمة عربياً، وتنسخها. انطلق أولئك الشبان مسوقين ما نسخوا في شارع المتنبي. لم يكونوا تجّار كتب، بل اشتغلوا بالثقافة، إلا أنهم لم يهتموا بنقد الحاضر السياسي. اشتغالهم برز في أفكار المعارف الإنسانية. نسخوا ما لم يتعارض مع سياسة النظام، لكن تعارض جوهرَه أو ما ظن أنه يهدده. فوكو، دريدا، شتراوس، هابرمارس، أركون، أبو زيد، علي حرب، الجابري، بنسعيد العلوي.. وآخرون هم مضمون النسخ. وليس مصادفة أن هذا الجيل لعب دوراً بارزاً ومحورياً في عالم الميديا بعد عام 2003. جُله أو أهم شخوصه عمِلوا في المجال الصحافي وأحياناً في المجال الأكاديمي. وبحكم التقادم، أكثرُ أسماء هذا الجيل مضى في غياهب الزمن، لم يعد في الواجهة. ظهر آخرون. وعلى الرغم من الغياب النسبي، كان جيلُ الاستنساخ وما بعده من شرائح أخرى مشتغلة في الثقافة حاسمين في التأثير في الوقائع السياسية والحراك الاحتجاجي. أظن أن ما يمكن تسميتها النخبة أو النخب، خصوصاً بعد 2010، لقنتْ أحزابَ السلطة دروساً في المعارضة لم يعتد العراق عليها.
ثم حدث تحوّلٌ جذري. مظاهرات عام 2010 تظل علامة فارقة. رُفع شعار "بغداد لن تكون قندهار" في احتجاجات ذلك العام. هو شعار لم تخلقه الحاجة الاقتصادية، ولم تستقطب جماهيرَه الأحزابُ. المشتغلون بالمعرفة والإعلام هم من فعل ذلك. شارع المتنبي، شارع الكتب والمعرفة، لا أروقة السياسيين، كان المطبخَ لـ"بغداد لن تكون قندهار". لذا وخلال أعوامٍ لاحقة، عملت كل الأحزاب على استدراج ذلك الشارع. العنف أيضاً سعى إلى إسكاته. لم يسكت بعد، ولم يُستدرج حتى الآن.
بالتأكيد هناك شرائح ومراكزُ قوى إعلامية ومؤسّساتية ساهمت في صناعة لحظة سياسية عام 2010، غير أن المشتغلين بالثقافة هم مَن كانوا في الواجهة، وهم مَن أسّسوا ثقافة الاحتجاج بعد ذلك، ثقافة وصلت ذروتها في احتجاجات أكتوبر 2019. لقد ولدت خلال تلك السنوات معطياتٌ جديدة، أسّستْ لما لم يكن العراق يمتلكه على مدى نصف قرن. لعب المشتَغِل غيرُ الحزبي في الثقافة دوره في التأسيس لوعي المعارضة مقابل الحزبي ومحاولاته توجيه الثقافة له.
لا يمكن للعراق أنْ ينهض فكرياً إلى مدى أبعد إن بقي فقيراً لمرجعيات بديلة. هذا ينطبق على أكثر البلدان العربية
كان الدور مهماً، ففي غياب المعارضة الحزبية، إلا من المتنازعين قومياً وطائفياً، كانت النخب غير المتحزبة مديرةً دفّة المواجهة ضد منظومة طائفية ومشبعة بالفساد. في عام 2014، عندما سقطت نينوى ومحافظاتٌ أخرى بيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، انقسمت النخب. كان الطائفيون الذين ارتموا في أحضان المليشيا وفتوى الجهاد والمشروع الإيراني، فضلاً عمن ارتموا في حضن "داعش" بعض الوقت، وكان آخرون كُثر واجهوا علانية أو بطريقة ما تشكيلَ المشروع الطائفي بذريعة المشروع الداعشي. نجح خصومُ الطائفية حين وقفت غالبيتهم ضد خلافة البغدادي، لكنهم لم يُشرعنوا عقيدةَ المليشيا. ثم في عام 2015، وتحديداً بعد اندلاع مظاهراتٍ عارمة، حدث أكبرُ انقسامٍ داخل النخب المشتغلة في النشاط المدني والإعلام والفكر. مقتدى الصدر قسّمهم. خوفاً من تصفية المليشيات الموالية لإيران، لجأ كثيرون لزعيمٍ دينسياسي قدّمَ نفسَه بديلاً عن المشروع الطائفي. كان كاذباً بالتأكيد، وكثيرٌ من أولئك الذين ذهبوا إليه باعتباره المخلِّص كانوا واهمين.
وعلى عكس 2015، لم تصنع النخبُ حراكَ تشرين الأول 2019، جيلٌ جديد فعل ذلك. المليشيا لم تفهم ذلك الجيل، على الرغم من أن بعض شرائحه قاتلت ضد "داعش"، وضحّت ودفعت من دمائها ومستقبلها الكثيرَ لمنع تمدّد التنظيم الإرهابي إلى بغداد، بعد أن أسقط ثلث العراق. لكن النخب وقفت موقفاً حاسماً في دعم تلك المظاهرات، وقفتْ خلفها، إلا بعض من امتهنت السلطةُ اسمَه وحولته واعظاً لها، أو جعلته المليشيا مجمّلاً لها. خاض المشتغلون في الثقافة معارك عدة في مواجهة محمومة لحماية شبان تشرين. وباتت أسماءٌ مهمة فيها هدفاً للقتل غيلة. بلغ الأمر ذروته مع اغتيال الباحث هشام الهاشمي.
ما يمكن تسميتها النخبة أو النخب، خصوصاً بعد 2010، لقنتْ أحزابَ السلطة دروساً في المعارضة لم يعتد العراق عليها
وسط ذلك كله، سعى رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، إلى استدراج النخب إليه، مدركاً دورَها. نجح في الحصول على بعض الأسماء، لكن آخرين ظلوا رافضين مشروعَه تحويلَ أصوات الصحافة والثقافة والفكر والنشاط المدني لخدمة سلطةٍ لا خيارات لها سوى التعايش مع منظومة النهب وشبكة المليشيا. هؤلاء الذين ظلوا في مواجهة مشروع سلطةٍ، يُفترض أنها ثمرة المظاهرات، هم دائماً خط النقد الرئيس وسط غياب الحلول.
لكن، هناك خلل مهم يواجهه المشتغلون في الثقافة. عانوا مما لم يعان منه الجيلُ المصري وجيل الربع الأخير من القرن الماضي، وهم ركزوا على ما عانى منه الجيلان. الانشغالُ في يوميات النقد السياسي ومواجهةِ السلطة والجماعات المسلحة والمشاريع الإقليمية المتنوعة أبعدَ كثيراً من الأسماء القادرة على صناعة الفكر عن المساهمة في بناء مرجعياتٍ لا يمكن أنْ تصنعها ردودُ الفعل اليومية. لقد أصبح الجميع تقريباً في مواجهة يومية بدون العمل على تأسيس قواعد معرفية تبلور بدائل. بمعنى آخر، المنجز المعارض في العراق تقوده نخبٌ مشتغلة بالكلمة، من دون أن تؤسّس لمعانٍ أبعد تساعد البلاد على إيجاد مستقبل فكري ومعرفي لا يعيد التاريخ ويعود به إلى الكارثة نفسها التي كرّرها خلال سبعة عقود. كارثة العاطفة التي تقف وراء قيامة "البعث" وبعث الإسلاميين وتخبط ورثة لينين.
لا يمكن للعراق أنْ ينهض فكرياً إلى مدى أبعد إن بقي فقيراً لمرجعيات بديلة. هذا ينطبق على أكثر البلدان العربية، غير أن الواضح، وسط هذه الفوضى، أن المشتغلين في الثقافة العراقية وزملاءَهم ما يزالون حجرَ الزاوية الوحيد في مواجهة أحزاب منظومة النهب وشبكة المليشيا وبائسي الحنين للماضي.