نحو وطن بلا ألوان
على بعد أمتارٍ قليلة من بيتي، تقع حديقة واسعة تغطّى أرضيّتها بالنجيل الأخضر، أنشئت في العام 2011 ضمن مشاريع التطوير في محافظة غزة كبرى محافظات القطاع. وهذه الحديقة منذ أنشئت على مساحة 15 دونماً بالتحديد، أعلن أنها مخصّصة للاحتفالات الوطنية، لأنّها تتسع لأعداد كبيرة من البشر، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ سكان القطاع يزيدون على مليونين بربع مليون تقريباً، لكنّ ذلك لا ينفي انقسام هذا العدد ما بين انتماءاتٍ فصائليةٍ أكبرها فصيلان يُرمز لهما باللونين، الأصفر والأخضر.
وعلى بعد أمتار قليلة من بيتي، أقيم احتفالان متتابعان بفارق أسبوعين؛ كان الأول في الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول لإحياء الذكرى الخامسة والثلاثين لانطلاق حركة حماس. أما الثاني فقد جرى إحياؤه في اليوم الأخير من الشهر، وذلك لإيقاد شعلة الانطلاقة الثامنة والخمسين لحركة فتح. وقد تابعت الطقوس والاستعدادات نفسها، وذلك الصخب الذي ملأ الشوارع بالدعوة إلى المشاركة منذ ساعات صباح كل يوم، ولكن ما كان يلفتني هو الرايات التي تحمل في كل يوم، فهناك لونان، الأخضر في منتصف الشهر والأصفر في نهايته.
بحثتُ عن أسباب اختيار حركة فتح، وهي أقدم حركة نضالية فلسطينية، اللون الأصفر. وتبين لي أنّ السبب هو التيمّن بالقائد صلاح الدين الأيوبي الذي فتح مدينة القدس وهو يحمل مع جيشه الرايات الصفراء. وقد ورد ذكر هذا اللون في خمسة مواضع في القرآن الكريم، وهو يعدّ من الألوان المبهجة المريحة للنفس الداعية إلى التفاؤل، واستخدمه المصريون القدماء رمزاً لآلهة الشمس وللوقاية من المرض.
وبحثتُ أيضاً عن أسباب اختيار حركة حماس اللون الأخضر، ليكون هو لون راياتها. وقد تبين لي أيضاً أنّ اللون الأخضر قد ارتبط ذكره في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، إذ يتمتع برمزية خاصة في وصف نعيم الجنّة والآخرة. ونظراً إلى رمزيته الدينية فقد تجلى هذا اللون في رايات الدول والجيوش الإسلامية وأعلامها على مرّ العصور، وفي فنّ العمارة الإسلامي، وخصوصاً قباب المساجد، ولأسباب نفسية تُطلى غرف العمليات باللون الأخضر، لأنّه باعثٌ على الهدوء والراحة النفسية.
وعلى الرغم من رمزية كلّ لون ودلالته، فإنّ كلّ فلسطيني حرّ وغيور يشعر، في هذا الوقت، بالحزن، لأنّ الشعب الفلسطيني بات منقسماً، ولا يجتمع تحت ألوان علم فلسطين، الأكبر عمراً من كلّ راية، والذي خرجنا في سنوات الانتفاضة نهتف به ومن أجله، ونتغنّى برمزية ألوانه الأربعة، وكنا نرفعه ونخفيه تحت ثيابنا، وندفنه بعد تغليفه بالنايلون في أرضيات بيوتنا، ما حدا بالجنود إلى تكسيرها في أثناء مداهمتها بحثا عن العلم، وكل ما يدعو إلى تأجيج الثورة من منشوراتٍ أو حتى أشرطة التسجيل القديمة، وحيث كنا نتداول، شبابا وصبايا، أغاني مارسيل خليفة الوطنية. فقد استخدم الفلسطينيون العلم بألوانه الأربعة، في إشارة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية ما بين عام 1917 و1947، واعترفت بالعلم الفلسطيني جامعة الدول العربية، وأكدت منظمة التحرير الفلسطينية على ذلك في المؤتمر الوطني الفلسطيني في القدس عام 1964 ويوم إعلان الاستقلال عام 1988.
في هذه المرحلة بالذات، وبسبب ما تمرّ به فلسطين من ظروف استثنائية تشكّل منعطفاً خطيراً، وهو تشكيل حكومة المتطرّفين برئاسة نتنياهو، رغم أن كل حكومات الاحتلال متطرّفة، وقد ذاق الشعب الفلسطيني على يدها كلّ صور المرّ والظلم والاستبداد. لكنّ ما يقوم به أبناء هذا الشعب من مقاومة لا تتوقّف جعلت هذا الاحتلال يعيش حالة من الهستيريا، فنحن بحاجة إلى تفعيل المقاومة الشعبية والوحدة، تحت راية العلم ورصّ الصفوف والرباط في المسجد الاقصى المبارك الذي تحاول حكومة الاحتلال تهويده، ضمن مخطّطات ممنهجة، وتحت مظلة صمت العالم، فنحن اليوم بحاجة إلى وطنٍ بلا ألوان، وطنٍ ينهي انقسامه، ويسير تحت رايةٍ واحدةٍ لإكمال الكفاح المشروع، حتى تحقيق كلّ آماله وطموحاته بالحرية والاستقلال.