نحو إعادة التفكير في النظام السياسي في مصر

نحو إعادة التفكير في النظام السياسي في مصر

02 يناير 2022
+ الخط -

تتركّز أهمية مصر في عدة أبعاد جيوسياسية وتاريخية، ودائمًا ما ينظر إليها دولةً محوريةً وفاعلة في العالم العربي والشرق الأوسط، ويرتبط بها المحيط العربي ارتباطًا كبيرًا في أحداث سياسية واجتماعية وفكرية كثيرة، فعلى الرغم من أن موجة ثورات الربيع العربي كانت قد عمّت عدة بلدان عربية، إلا أن انتكاس هذه الثورات وتشكل محور الثورات المضادة وُلد من رحم انقلاب 3 يوليو (2013) في مصر، لتعود مصر مجدّدًا، بمعاونة حلفائها في محور الثورات المضادّة، إلى واجهة التأثير والفاعلية بمشروع وأد الديمقراطية الوليدة آنذاك.

الإشكال الذي واجه تياراتٍ عدّة داخل الجماعات العلمية العربية بالتحديد هو الانحصار عدة سنوات داخل ثنائية "الثورة – الانقلاب"، والرهان الضمني على حتميةٍ تاريخيةٍ لفشل الحكم العسكري، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، الأمر الذي جعل التراكم المعرفي التاريخي والسياسي لهذه الحقبة في مصر متأثرا، بدرجةٍ كبيرةٍ، بتحيزاتٍ فرضتها عاطفية هذه اللحظة التاريخية، وأفق تفكير رغائبي مهجوس بلحظة سقوط الانقلاب.

بعد سبع سنوات من حكم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بدا أن من الضروري إعادة التفكير في طبيعة هذا النظام وبنيته وموارد شرعيته وبقائه، وهل هو نسخة محدثة من دولة يوليو (1952)، أم أنه نظام يحمل تجديدات وأدوات سياسية وقانونية واقتصادية كثيرة؟ مثّلت الفترة التي تلت انقلاب يوليو (2013) في مصر مرحلةً من التصلّب حول الموقف من النظام السياسي الناشئ، وبقي الأمر كذلك سنوات، حتى بدا أن نظام الرئيس السيسي مستقرٌّ إلى حد بعيد على المستويين، السياسي والاقتصادي.

الجيوش العربية أضحت رقمًا أساسياً في معادلة السياسة، وهو الأمر الذي ساعد كثيرًا في عودة المقاربات الأمنية إلى واجهة المعالجات داخل المجتمع العلمي

برز مجددًا الحديث عن دور الجيوش العربية في السياسة، عقب الإخفاقات المتكرّرة التي منيت بها الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي، ووضوح شبكات تحالف الثورات المضادّة في المنطقة العربية، وبات من الواضح أن الجيوش العربية أضحت رقمًا أساسياً في معادلة السياسة، وهو الأمر الذي ساعد كثيرًا في عودة المقاربات الأمنية إلى واجهة المعالجات داخل المجتمع العلمي.

ينتبه عزمي بشارة مبكرًا إلى إشكاليات المعالجات التبسيطية لهذا الابتلاء العربي، ويقدم تبصّراته النقدية عن علاقة الجيوش بالسياسة في السياق العربي في محاضرته الافتتاحية لمؤتمر "الجيش والسياسة في مرحلة التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي" في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، وعنوان "الجيش والحكم عربياً: إشكاليات عربية" وطبعت مفردة في كتاب مستقل صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ومثّلت المحاضرة الإشارات النقدية المبكرة إلى أزمات المجتمع المدني والسياسة في مصر، حيث نبّه بشارة إلى أن الجيش سنحت له فرصة الهيمنة على الحكم، واستغل عدم قدرة القوى السياسية على الاختلاف تحت سقف مؤسّسات منتخبة ديمقراطياً، ومحاولات عدد منها كسبه لصفّها ضد الأخرى، إذ مع تصاعد الأزمات في ظل حكم الرئيس محمد مرسي، بدا أن الجيش المصري هو الثابت الوحيد بين قوى سياسية متغيرة وغير قادرة على الاتفاق، وجميعها يلجأ إلى أن يكون الجيش بجانبها، ثم قام الجيش بخطوته، بعد أن حرّك الجماهير كي تطالبه بذلك.

مصر الدولة العربية الأكثر قدرة على أن تكون الدولة الديمقراطية في المنطقة العربية، وذلك على مستوى الموارد والإمكانات الثقافية والمؤسّساتية والتاريخية

الجيش، وفق بشارة، مؤسسةٌ تعمل وفق مصالحها، وتميل إلى تصوير مصالحها في مراحل الانتقال كأنها مصالح وطنية عامة، كما أنها لا تعمل وفق نظام أفكار، فهي مؤسّسة منظمة أعلى من حزب أو حركة تحمل أفكاراً. كما أنه، بصورة ما، استطاع توصيل المجتمع المصري إلى حالةٍ من الفرز بين خصوم سياسيين، وتمكّن، بطريقة أو بأخرى، من اكتساب غطاء مدني لبلوغ شكل العملية النهائية التي قام بها في يوليو/ تموز 2013، وابتعد عن جدل الديمقراطية ومعارضيها ليعطي لعملية الانقلاب شكلًا ديمقراطياً كونه انصياعًا من الجيش لرغبة الشعب.

يثير عزمي بشارة النقاش في ضرورة إعادة النظر في طبيعة النظام السياسي الذي يقوده السيسي الآن في مصر، ويدعو بشكل واضح إلى أهمية تجاوز التفكير المحصور في ثنائية الشرعية والانقلاب، وضرورة عدم الوقوف عند لحظة الانقلاب العسكري في 2013. في حلقة "لقاء تفاعلي مع عزمي بشارة حول سوريا ومصر وليبيا واليمن بعد عقد من الثورة" على قناة العربي في فبراير/ شباط الماضي، صرّح بشارة بأنّ أزمة المعارضة المصرية، وبالتحديد جماعة الإخوان المسلمين، أنّها وقفت عند لحظة الانقلاب ولم تتجاوزه عبر سنواتٍ أعقبته. ويرى أنّ جماهير الشعب المصري التي خرجت في 30 يونيو/ حزيران 2013 كانت خليطاً من مواطنين عارضوا بالفعل حكم الرئيس الراحل، محمد مرسي، وجماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى آخرين كانوا راغبين في حصول الانقلاب العسكري. ويتطلب الأمر، وفق بشارة، أن تعيد المعارضة المصرية النظر في سنوات ما بعد الثورة، سواء جماعة الإخوان وحلفاؤها، أو المعارضة الليبرالية التي دعمت، بشكل أو بآخر، الانقلاب، إذ إنّ مصر هي الدولة العربية الأكثر قدرة على أن تكون الدولة الديمقراطية في المنطقة العربية، وذلك على مستوى الموارد والإمكانات الثقافية والمؤسّساتية والتاريخية.

يرى عزمي بشارة نظام السيسي قوياً متماسكاً، يمتلك قواعد اجتماعية وسياسات اقتصادية ونموذجاً تحديثياً

وعلى الرغم من أنّ عزمي بشارة يسلّم بأن حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر نظام ديكتاتوري سلطوي بامتياز؛ إلّا أنّه يرى أنّه حالياً نظام قوي متماسك، يمتلك قواعد اجتماعية وسياسات اقتصادية ونموذجا تحديثيا، الأمر الذي يتطلب، وفق بشارة، مساءلة سياساته وبنيته ومآلاته وتفكيكها، حتى نفهم طبيعة هذا النظام وسيرورته. وهو ما كان أكده في كتابه "الجيش والحكم عربيًا" (صدر في 2017)، حيث يرى أن هذا النوع من الانقلابات يتّسم بالاستقرار للأسف، فالجيش المصري ليس مجموعة أو شلة أو أخوية ضباط، بل جيش نظامي يتعذّر أن تعقب انقلاباته صراعات ضباط، فالهرمية التراتبية واضحةٌ فيه تمامًا، وقائد الجيش يصبح في هذه الحالة رئيسًا، وجل ما يمكن أن يحققه هو إجراءات اقتصادية واجتماعية لا تجرؤ حكومة منتخبة على القيام بها، وعيناها على الرأي العام ونتائج الاستفتاءات الشعبية. ولذلك يرى بشارة أنّ تشيلي في مرحلة بينوشيه حققت استقراراً ملحوظاً، ونمواً اقتصادياً، واستمر الحكم فترة طويلة نسبيًا، وانتهى بانفتاحٍ متدرّجٍ على المجالين، الحزبي والنقابي، ثم استفتاءات قادت لتحول ديمقراطي.

وفق بشارة؛ لا يمكن توقع ذلك في الحالة المصرية الراهنة، إلّا أنّ ثمّة حاجة ملحّة للنظر في نموذج الحكم والإدارة الذي يقدمه نظام السيسي. أولاً لفهم أسباب الإخفاق المتكرّر في مساعي التحوّل الديمقراطي في مصر، وثانياً لتجويد العدسة البحثية التي يُنظر من خلالها إلى دولة يوليو 2013، والتي ستكون مولجاً مهماً لبناء التصور الدقيق لتاريخ وصيرورة الخيال العسكري والسياسة في مصر منذ دولة محمد علي وحتى حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي.

محمد توفيق
محمد توفيق
كاتب وباحث مصري