نحن ومن حولنا بروكرست
بروكرست في الميثولوجيا اليونانية قاطع طريقٍ. هوسه بالانسجام جعل له طريقة فريدة في التعامل مع ضحاياه من مسافرين مرّوا بنُزُلِه. فبعد كرم الضيافة، يستدرج بروكرست ضيوفه لقضاء الليل في سريره الحديدي، الذي يجعله في مقاس أي منهم، قصّاً لرجلَي الطويل، ومطّاً لرجلَي القصير. تكاثرت ضحايا بروكرست قبل أن يلقى حتفه بيد ثيسيوس، وبأسلوب بروكرست المرّوع نفسه، لكن ذلك لم يقضِ على البروكرستية استراتيجية تفرض المطابقة الصارمة، وتُعطي الأولوية للتجانس على الفردية، فهي لا تزال تهيمن في مجتمعاتنا المعاصرة على الاقتصاد والسياسة والعلوم والتعليم والتكنولوجيا، كامنة في النظام الذي يُصفِّي أولئك الذين يفكِّرون ويعملون بشكل مختلف.
الأنظمة السياسية السلطوية بروكرستية في طبيعتها، تفرض المطابقة القسرية على المجتمع، وتُجبِر الأفراد على العيش في قوالبَ ناجزة، بذريعة الحفاظ على النظام أو التقدّم أو الاستقرار، فتقمع المعارضة، والتنوّع الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي. وسواء كان واحدنا يعيش في أنظمة سلطوية أو ديمقراطية، فإن لكلّ منا سرير بروكرست الخاصّ به، فيجعل المسافرين يتناسبون مع السرير، بدلاً من جعل السرير يتناسب مع المسافرين. ففي مواجهة معارفنا المحدودة، وكمٍّ هائلٍ من الظروف غير المعروفة، وغير المرئية، وغير المتوقّعة، نحشر الحياة والعالم في أفكار مُسبقة، وفئات مُختزَلة، ومفردات مُحدَّدة، فتتجاوز حكاية بروكرست جذورها الأسطورية لتصبح فخّاً إدراكياً يشوّه الواقع، ليتناسب الأخير والسرديات المُسبقة. بالتوازي مع ذلك، تحاصرنا المعايير الاجتماعية والتوقّعات الجمعية، اللتان تحشران الناس في صناديقَ مغلقة، إذ يضغط المجتمع على أفراده للتكيّف مع الأدوار المُحدَّدة مسبقاً، بناءً على الجنس أو المهنة أو أنماط الحياة، ويثبّط أي انحراف عن القاعدة.
ويترك تدفّق البيانات في العصر الرقمي آثاراً بروكرستية، حين تحدّ الخوارزميات من وجهات النظر المتباينة. فهدف شركات التواصل الاجتماعي أن يبقى المستخدمون في المنصّات أطول فترة ممكنة تحقيقاً لأعلى أرباح من الإعلانات، وتخلق الخوارزميات البروكرستية، التي تستغلّها المنصّات لتحقيق هذا الهدف، ما يسمّى بـ"غرف الصدى"، حين تركّز (متجسّسة على المستخدمين) في تفضيلاتهم، موفّرة لهم محتوى إضافياً على شاكلة تلك التفضيلات، منشؤه غالباً من أناس متوافقين معهم، فيختفي المحتوى المخالف، ولا يسمع المرء سوى صدى آرائه ومثيلاتها يتردّد في الفضاء الافتراضي، ما يقوّض التفكير العميق، والنقاش المنتج.
أنظمة التعليم في غالبيتها بروكرستية، تخلق أجيالاً من المتعلّمين قُلِّصت قدراتهم (أو بُتِرت) لتناسب المُثل العُليا التقليدية، فتنتج مقلّدين لا مبدعين. تتجاهل المناهج الصارمة وأنظمة الاختبارات الموحّدة أنماط التعليم المتنوّعة، والمواهب الفردية، واختلاف الثقافات في المجتمع الواحد، فعلى الطلّاب أن يتناسبوا مع "أسرّة" النجاح المحدّدة، بحجة أن في التوحيد القياسي عدالة، فيُستبَدل الحفظ والاسترجاع بالتعليم الحقيقي، ويشعر طلاب بالفشل لعدم ملاءمتهم الهياكل الأكاديمية والتربوية المُحدَّدة مسبقاً.
في حقل الأعمال، تفرض الشركات على موظفيها هياكلَ غير مرنة؛ جداول زمنية صارمة؛ ساعات عمل مُحدَّدة؛ مقاييس إنتاجية مُوحَّدة، فتفشل في استيعاب أنماط العمل الفردية أو الظروف الشخصية، ليجد الموظّفون أنفسهم تحت ضغط جهد تلبية مطالب غير واقعية، أو مُقلَّصين ليتناسبوا والقوالب البيروقراطية، ممثّلة في الملابس الرسمية أو اليونيفورم الموحَّد، وفي ساعات العمل الصارمة، رغم أن الدراسات تثبت أن الجداول الزمنية المرنة والعمل من بُعد يُحسّنان الإنتاجية. تركيز الشركات في عمليات الإنتاج ومعاييره الصارمة، بدلاً من التركيز في النتائج، يُشعِر الموظّفين بأنهم محاصرون بأدوار لا تناسبهم، وكثيراً ما يغادرون أعمالهم، حيث لا يمكنهم أن يكونوا أنفسهم.
لا بدّ من التشكيك في الأطر التي تحصر الواقع في نماذج ضيّقة، وأن نحتضن عدم اليقين اعترافاً بحدود السيطرة والقدرة على التنبؤ، لا التضحية بالأصالة في سبيل المطابقة القسرية في التعليم والعمل والثقافة، وتتطلّب مقاومة البروكرستية تبنّي التعدّدية، وقدرة الأنظمة على التكيّف مع التنوّع البشري، وليس العكس، ومزيداً من التواضع والشجاعة للاعتراف أن لا معيارَ واحداً يمكنه تجسيد التعقيد البشري.