نحن والدولة
(فريد بلكاهية)
بناء الدولة – الأمة في أوروبا اقترن بفصل الكنيسة عن السياسة، وتحييد الدور السياسي لرجال الدين، لينصرفوا إلى مهمتهم الأساس دعاة للفضيلة والقيم الأخلاقية والعبادات، فيما أدّى ويؤدي تسييس الدين عندنا، وفي مجتمعاتنا المنقسمة مذهبياً، لا إلى إضعاف بنية الدولة الوطنية فقط، بل إلى دحرها وإسقاطها، خصوصاً أنّ هذه الدولة، رغم ما أظهرته من استبداد في علاقتها بمواطنيها في حالات كثيرة، لم تكن راسخة البنيان، وعلى الأرجح بسبب هذا الاستبداد نفسه، رغم انصراف البلدان العربية، بعد نيل استقلالها غداة الحرب العالمية الثانية، نحو تشييد البيروقراطية "الدولتية"، ببناء مؤسسات الدولة، كالجيش والأجهزة الحكومية الأخرى المعنية بشؤون الخدمات والاقتصاد وسواهما.
ورغم أنّ خطاب الوحدة العربية كان، يومها، مدوّياً، سواء من جانب مصر الناصرية، أو من الحركات القومية، كحزب البعث وحركة القوميين العرب وغيرهما، لكن لم يكن متاحاً الانتقال إلى الدولة – الأمة، في سياق عربي شامل، في غياب كيانات قوية للدولة الوطنية، أو القطرية كما يطلق عليها، في كل بلد عربي على حدة، خصوصاً أنّ التنازع على النفوذ كان قوياً بين الدولة باعتبارها جهازاً حديثاً، وما قبل الدولة من بنى قبلية وعشائرية وطائفية وما إليها، فتراجعت الدعوات القومية عن "الأمة العربية الواحدة" لصالح الدعوات نحو "الأمة الإسلامية الواحدة"، وكانت الضحية مرّة أخرى الدولة الوطنية المتعثّرة أساساً في إنجاز بنية متماسكة مدنيّة حديثة.
في الظاهر، يبدو أنّ الدولة الوطنية نجحت في فرض سيطرتها على أراضيها وعلى المجتمع عامة، ولكن ما حدث حقيقة أنّ هذه الدولة كي تفعل ذلك تماهت مع البنى السابقة لها، ونقلت أدوات سيطرة هذه البنى إلى بنى الدولة، التي بدت امتداداً لسلطة القبيلة أو العشيرة أو الطائفة والمذهب، التي اخترقت أجهزة الدولة وهيمنت عليها، وجيَّرتها لصالح "تأبيد" سلطتها، أو إطالتها ما أمكن.
انحيازنا إلى فكرة الدولة مقارنة بما هو سابق لها من بنى تقليدية لا يعني، في أيّ حال، تقديس الدولة في المطلق. هناك الدولة الاستبداديّة والديكتاتوريّة والتسلطيّة، إلخ، التي تُقيم سلطتها على مواطنيها بالقمع والرعب، لكن هذا لا يعني أنّ الخطأ يكمن في فكرة الدولة نفسها، فالأمر يتوقّف على من يُدير هذه الدولة، وبأيّة ذهنية وآليات، ويتوقّف أيضاً على مدى استعداد المجتمع عامةً لفرض الدولة التي تدير الأمور بقوّة القانون لا بمنطق القوّة.
نخلص إلى أنّ الاستبداد مسؤولٌ، بدرجةٍ كبيرة، عن المالآت التي انزلقت إليها الدولة الوطنية في أكثر من بلد، وأن مناهضة هذا الاستبداد و"دمقرطة" الدولة والمجتمع مسلكان ضروريان ومجرّبان لصون هذه الدولة، وتأمين الالتفاف الشعبي حولها في وجه أية مخاطر، أكانت آتية من قوى داخلية تُضمر لأوطانها الشر، أو من تدخّلات واعتداءات خارجية، وهو ما أخفقت فيه دول عربية مفصلية مثل العراق وسورية وسواهما، خصوصاً مع شيوع ما عرف بـ "الفوضى الخلاقة" التي أعملت معاول الهدم في بنية الدولة الوطنية العربية، ونجحت في أكثر من مكان في تفكيكها، وردّ المجتمعات إلى عصبياتها المتأصلة في القاع، أكانت طائفية أم مذهبية أم إثنية، وهو ما استفادت منه قوى إقليمية صاعدة في الجوار العربي تملك أجندات واضحة لتعزيز نفوذها في المنطقة، مستفيدة من حال ضعفنا البيّن، الذي يزداد يوماً عن يوم ولا ينقص.
ضُعف الدولة أو عجزها أو استبدادها لا يُعالَج بتحطيم ما أقامته من مؤسّسات، ومصادرة دورها الوطني الشامل المفترض، بل بالعمل على النهوض بالمجتمع المدني، ليكون رقيباً وشريكاً. وهذه إحدى معضلات واقعنا العربي الراهن، ففي ظلّ هشاشة (وضعف) المجتمع المدني الحديث، المنطلق من فكرتي الحداثة والمشاركة السياسية بأفق ديمقراطي، يجري تسويق فكرة أن كل ما هو خارج الدولة يعدّ افضل منها، دون الوقوف على طبيعة البرامج الاجتماعية والسياسية والرؤى الإيديولوجية المحافظة الناظمة لتوجّه من هم خارج الدولة، ويتعيّن ألّا نُفتن بالشعارات البرّاقة التي تُسوّق بدائل الدولة، بحجّة أنّ الدولة استبدادية، وننساق إلى الوهم أنّ الكيانات التقليدية الموازية، أو التي تريد أن تجعل من نفسها بديلاً للدولة هي أكثر تعبيراً عن هموم المواطنين وتطلّعاتهم، لأنّ هذه الكيانات ردّةٌ إلى الوراء، وتحطيم للمنجز المؤسّساتي الذي حصل، مهما كانت ضآلته وهشاشته، فالمطلوب توسيع هذا الطابع المؤسّساتي وترسيخه وتقويته، لا الارتداد عنه.