نجت الأنظمة وسقطت الدولة

نجت الأنظمة وسقطت الدولة

31 مارس 2021
+ الخط -

من غير الواضح ما إذا كانت المصادفة المحضة هي التي جعلت الدول العربية التي انهارت الدولة فيها، أو شهدت صراعات داخلية مسلحة، سواء في فترة الربيع العربي (سورية، ليبيا، اليمن) أو حتى قبله (الجزائر والعراق)، تشترك في أنها كانت جميعًا حليفة للاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة التي امتدت بين عامي 1946-1989. ومن غير الواضح أيضا ما إذا كان السبب في تجنّب دول عربية أخرى المصير نفسه، على الرغم من أنها شهدت، هي الأخرى، ثورات، يتمثل في أنها لم تكن تعتمد على دعم الاتحاد السوفييتي أو مساندته (مصر وتونس مثلاً)، لكن الأكيد أن بعض هذه الأنظمة نجت مرحليا من تداعيات انهيار المعسكر الاشتراكي، بفضل استراتيجيات مختلفة، مكّنتها من شراء بعض الوقت، ليكون ثمن نجاحها انهيار الدولة نفسها في مرحلة لاحقة.

مع انتهاء الحرب الباردة، كان يفترض أن تسلك الدول العربية الحليفة للاتحاد السوفييتي مسلك دول أوروبا الشرقية التي انهارت أنظمة الحكم فيها مع ظهور بوادر تصدع بنيان "الرفيق الأكبر"، وفقدت بذلك إما المظلة الدفاعية التي كانت تتمتع بها بموجب معاهدات صداقة تم توقيعها مع موسكو (العراق 1972، سورية 1980، اليمن الجنوبي 1979) أو فقدت المساعدات التي كانت تتلقاها منها، وواجهت بذلك صعوباتٍ اقتصادية تزامنت مع انهيار أسعار النفط العالمية (الجزائر وإلى حد ما ليبيا) والتي نتجت بدورها من اتفاق السعودية مع واشنطن على تخفيض أسعار النفط لتسريع انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان اقتصاده يعتمد هو الآخر، على نحو كلي تقريبا، على تصدير النفط.

كانت الجزائر أول دولة حليفة للسوفييت، تظهر عليها أعراض انتهاء الحرب الباردة، وقد تمثل ذلك في احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 1988 التي اضطرت النظام إلى إطلاق إصلاحات سياسية لم يستطع تحمل تبعاتها بعد أن فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بانتخابات ديسمبر/ كانون الأول 1991، لتدخل البلاد على أثرها في حربٍ أهليةٍ داميةٍ استمرت طوال عقد التسعينات. أما العراق فقد قام بغزو الكويت، بحثًا عن حل لمشكلاته الاقتصادية، بعد انتهاء الحرب مع إيران، وفق حساباتٍ خاطئة، قامت على أن واشنطن، مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط خصمها الرئيس، لن تحرّك ساكنا إزاء هذا التحرّك. وكان الغزو العراقي للكويت الخطوة الأولى في مسار طويل أدّى، في النهاية، إلى انهيار الدولة العراقية. أما اليمن الجنوبي، وهو البلد العربي الوحيد الذي تمكّن الماركسيون من حكمه حتى نهاية الحرب الباردة، فقد وجد الحل في الوحدة مع الشمال المدعوم من دول الخليج العربية الغنية، واختفى بذلك عن الخريطة السياسية للمنطقة العربية. وقد اختصر معمّر القذافي الطريق على نفسه، فقام بتسليم سلاحه النووي، والتوصل إلى تسوية مع واشنطن، أمنت له البقاء في الحكم حتى عام 2011. أما سورية فقد بدت وكأنها الوحيدة التي نجت من تداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي من دون أثمان كبيرة، إذ تأقلم نظامها سريعا مع المتغيرات الكبرى في النظام الدولي، واتبع مزيجا من الاستراتيجيات التي ساعدته على البقاء. خارجيا، غيَّر النظام تحالفاته، فانتقل الى المعسكر الأميركي، مستغلا الغزو العراقي للكويت، ثم انخرط في عملية السلام، ثم غدا بقدرة قادر جزءا من محور الاعتدال (إلى جانب مصر والسعودية) الذي حكم السياسة العربية تحت المظلة الأميركية لمعظم عقد التسعينات. داخليا، بدأ التحول نحو اقتصاد أكثر ليبراليةً تتوفر فيه هوامش حرية أكبر في مجال الاستثمار والعمل والمبادرة الاقتصادية، ليكون ذلك بديلا عن الإصلاح السياسي. بعبارة أخرى، جرى التخلي عن النموذج السوفييتي المنهار، والتحوّل الى تمثل النموذج الصيني الصاعد.

قدّمت الصين، في ذلك الوقت، ما بدا وكأنه حل سحري بنموذجها الذي جسّد عملية تزاوج فريدة بين التعددية الاقتصادية والملكية الفردية من جهة والمركزية السياسية وحكم الحزب الواحد من جهة أخرى. كانت هذه هي الوصفة التي اشترت لبعض النظم العربية نحو عقدين إضافيين من الحكم، لكن الثمن المؤجّل كان كارثيًا. ففي حين نجت الدولة في أوروبا الشرقية برحيل أنظمتها ورضوخها "لسُنَّة" التغيير، دفع العرب ثمنا باهظًا لنجاة أنظمتهم من تداعيات الانهيار السوفييتي، لينتهي الأمر بسقوط الدولة نفسها!