نجاة .. صوتٌ يناديك من وراء شبّاك

نجاة .. صوتٌ يناديك من وراء شبّاك

18 اغسطس 2022
+ الخط -

صوتٌ فيه نعومة الحنّاء، والحنّاء ملفوفة في منديل عاشق صغير ومُلقى إليك، منها، من وراء شباك، كي يسألك عن حال القلوب، ووجه هادئ تحسّ أنه خالٍ من كل عثرات الحياة، صوتٌ يناديك بخفر وارتباكة في وسط طريق، بأنك قد نسيت شيئا ما في الدولاب، كأختٍ لك حريصة على أن تكلّمك بحياء في خصوصيات قلبك، لأنك أنت المحتاج لها، رغم بعدها عنك كما تظنّ، كصوت في وجهٍ حلوٍ لزميلة في الجامعة غالبا لا تتكلم مع أحد رغم جمالها الأخّاذ.
وجهٌ حزينٌ محبوسٌ في حنجرة لا تعرف هي سبب أحزانه، ولا تسعى إلى محاولة الخروج من هذا الحزن، لأنها تآلفت معه وصار صديقها وأنيسها وشامتها أيضا، حزن تقوله هي في شكل كلمات، وكأنها كتبتها لنفسها أو حلمت بها لمجرّد خروج الكلمات من حنجرتها هي، وكأنها تقول للحزن: "أنت لست لي، بل للماضي فقط، وقدري في الغناء".
صوت قريب جدا من أسرار الحمام واليمام، وحتى عيونها لا تبتعد كثيرا عن حيرة الكلام الصامت في عيون الحمام، رغم صعوبة كلام الحمام واستحالته، مهما حاولت الاقتراب من فهمه ودلال حنو العين والطلّة، صوت تحمله صاحبته إلى مشاغل تخصّها، وكأنها تكتب مكتوبا وتعطيه لصديقتها كي ترسله إلى حبيبها هناك، صوتٌ ناعمٌ بلا مكر، صوت تلميذة تتشاغل عامدةً عن الدرس، كي تلفت بال المدرس إلى حيرتها، وصاحبة أخرى هناك ترسل الوردة بدلا منها بلا توضيح، وصاحبة الموضوع في كتمان، صوت ليس لديه جرأة العلن، ولكنه يتراقص وحيدا في خفاء الطلب وغموضه وانكساره أحيانا بلا سبب، إلا عطر الدلال.
"يا نيل يا اسمراني"، وكأنها تغنّي للنيل نعم بكل تأكيد، وترمي طرف موّالها الحرير على الحبيب، ويا فرحة النيل بالغناء، ويا لسعادة من ناله حظ المحبة من دلال الصوت وشرب وهو عطشان، "يا أعز الحبايب يا اسمر، عطشان والهوى عطشان، شرباتك يا ورد وسكر، اسقيني كمان وكمان، اسقيني على طول، ولا تسأل في عزول". هل كان لا بد أن تأتيني هذه الأغنية، خصوصا من حنجرتها في هذه الأيام الذي يداري فيها النيل كحله عن الحزانى من أهل مصر، ويستحي وهو القادم من "العلالي"، كما يقول مرسي جميل عزيز ولحّن محمود الشريف؟ وهل كان لا بد أن نخلط الغناء بنكد الساسة، وحدها فقط التي خلطت سُمرة النيل بسُمرة المحبوب وخرجت بلا ملامة، خرجت سالمة، هي نجاة، لأنها تغني ولا تطمع في الحكم، فكان النيل حبيبها طوع حنجرتها وفي ملمس منديلها، صوت فرح بالوطن من دون أن يحمل تروس السياسة ومدرّعاتها وقنابلها ومحاريثها وجرّاراتها كما فعل "الرقيق جدا"، عبد الحليم حافظ، ولكنها وكأنها حمامة غنّت للمراكب والحمام في إعادة فتح قناة السويس في عهد السادات، كانت بعيدة كل البعد عن مشرط كاتب الأغنية، حينما يكون رديفا للسياسي أو الحاكم أو الطامع والنهم في الحكم بكل شرايينه وأوردته من خمسين سنة، ويفكّر فيهما هذا الذلّ القديم المعلن بفجاجة؟
كانت نجاة تغنّي للموجة والمركب، أغنية من أجمل ما قيل بعد الحروب الأخيرة التي انتهت من خمسين سنة تقريبا، صوت معقود الصلة بالورد والمراكب والجنائن والجناينية والشوك "أحيانا"، ولا تترُك حنجرتها، لأصوات المدافع أو الدبابات والمدرعات، صوت به انكسار أنثوي ما، يقترب جدا من انكسار عبد الحليم حافظ الذكوري المكتمل في حزن العينين وشجنيهما، صوت به يتمٌ ما، يتمٌ لا يحسّ، غير يتم عبد الحليم التاريخي والحقيقي والواضح، حتى صار هذا اليتم هو سرّه الجميل الملتصق به مع ألمه وعذابه.
كانت نجاة الصغيرة تبدو، في مظهرها المخملي المرسوم بعناية، خاليةً من مظاهر الآلام والعذابات، رغم سكن الآلام في حنجرتها، وكان عبد الحليم "فتى الثورة"، يبدو دائما ذلك الممسك بالبندقية، في الغناء، رغم آلام جسده الحقيقية، هل حنجرة المغنّي أو المغنية هي بمثابة "قلب آخر"، يداري فيه الشخص المغنّي أو الشخصية، أسرارها، وهل المغني هو الذي يكتب، المغني فقط يغني ما كتب له مع آلات الطرب، الحنجرة آلة أخرى تقول شجنها بطريقتها، وتقول فرحها بعيدا عن "الكورس"، الحنجرة هي ملك لأحزاننا، السياسة تريد من الحنجرة، أي حنجرة لمطرب أن تكون ملكا لحزبه، هذا إن كان يؤمن بالحزب أصلا، السياسة عمياء تريد من المطربة أن تغنّي. الحنجرة تخص حزننا ولا تخصّ بوابة الحزب، أو طائرة الرئيس أو قصره أو سنواته في الحكم.
84 سنة مرّت على حزن عيون حمامة الغناء المصري، نجاة الصغيرة، وكل سنة وهي طيبة.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري