مِن يالطا إلى شنغهاي

12 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 03:00 (توقيت القدس)

الصورة التذكارية لحضور قمة شنغهاي في تيانجين شمال الصين (31/8/2025 الأناضول)

+ الخط -

قبل أكثر من 80 عاماً، وتحديداً ما بين 4 و11 فبراير/ شباط 1945، التأمت في مدينة يالطا، في جمهورية القرم التابعة آنذاك للاتحاد السوفييتي البائد، قمةٌ تاريخيةٌ جمعت ستالين وتشرتشل وروزفلت، انتهت بتوقيع ما باتت تُعرف تاريخياً باتفاقية يالطا، التي وضعت الإطار العام للنظام الدولي الذي ساد العالم بعد هزيمة النازية وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

مناسبة الإتيان على ذلك الحدث الدولي البعيد قمةُ منظّمة شنغهاي للتعاون، التي انعقدت أشغالُها في مدينة تيانجين الصينية في غضون الأسبوع المنصرم. وعلى الرغم من أن من السابق لأوانه القول إن هذه القمة تؤشّر على تشكّل نظام دولي جديد، إلا أنها على الأقل نجحت في وضع المجتمع الدولي أمام حقيقة الانسداد البنيوي الذي بات يواجه النظام الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ أكثر من ثلاثة عقود.

كان سقوط جدار برلين وتداعي الإمبراطورية السوفييتية منعرجاً مفصلياً في تاريخ العلاقات الدولية. وفي وقتٍ كانت شعوب العالم تتطلع فيه إلى نظام دولي تسوده قيم العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت الولايات المتحدة تضع أسس نظام دولي يقوم على الأحادية القطبية، بما يعنيه ذلك من تحوّلٍ في توزيع القوة بين القوى الدولية الكبرى، وفرض هيمنة عسكرية واقتصادية أميركية، من دون السهو، بالطبع، عن تراجع دور الأمم المتحدة في حل النزاعات الدولية، وبالأخص منذ مطلع الألفية الجديدة.

لافتٌ في قمة شنغهاي أنه بقدر ما كانت مواردُ الخطاب الغربي بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعولمة غائبةً، كان هناك تشديدٌ على أهمية الخصوصيات الثقافية والحضارية في اجتراح النماذج التنموية والاقتصادية، في ما يبدو اعتراضاً ثقافياً وسياسياً، لا يخلو من دلالة، على الخطاب الغربي وازدواجية معاييره، التي تتبدّى في السياسة كما الاقتصاد والثقافة والإعلام. وتجسّد هذا الاعتراض في التقارب الصيني الهندي، فاختلاف طبيعة النظامين (الصيني والهندي) لم تمنع قيادَتيْهما من التوسّل بأهمية المصالح المشتركة في تعزيز قوتهما الاقتصادية، بعد أن حالت القيم الديمقراطية، التي تتقاسمها الهند مع الولايات المتحدة، دون فرض دونالد ترامب رسوماً جمركية مرتفعة على الواردات الهندية بلغت 50%. كذلك تجسّد هذا الاعتراض أيضاً في اتفاق الطاقة الذي وقعته الصين وروسيا، ويقضي بتوريد الغاز الروسي إلى الصين 30 عاماً. وفضلاً عن منافع هذا الاتفاق بالنسبة إلى الاقتصاد الروسي الذي يواجه عقوباتٍ غربيةٍ قاسية، يُتوقع أن ينقل العلاقات الصينية الروسية إلى طور أكثر متانة من الناحية الاستراتيجية.

بالطبع، تدرك الصين وروسيا وكوريا الشمالية أنه من دون قوة عسكرية، قادرة على إحداث الحد الأدنى من الردع لدى الغرب، لا يمكن قيام نظام دولي متعدّد الأقطاب، فالقوة الاقتصادية تبقى بحاجة للقوة العسكرية والحضور الاستراتيجي. ضمن هذا السياق، يندرج العرض العسكري الصيني الضخم، الذي كان رسائل موجّهة إلى دوائر القرار في العواصم الغربية الكبرى، وفي مقدّمتها واشنطن؛ فقد استعرضت بكين أحدث ما لديها في منظومتها العسكرية والتكنولوجية. وعلاوة على أن ذلك حمل دلالة رمزيةً تمثلت بإحياء أمجادها العسكرية خلال حربها مع اليابان (1937 - 1945)، حمل أيضاً دلالة سياسية، مفادها أن الصين أضحت جاهزة للجيل الجديد من الحروب التي تقودها التكنولوجيا المتطوّرة، في مقدّمها الذكاء الاصطناعي. كذلك إن حضور الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والكوري الشمالي كيم جونغ أون، إضافة إلى رؤساء دول آخرين، جعل العرض يبدو وكأنه إصرار من الدول الثلاث (الصين، روسيا، كوريا الشمالية) على طي صفحة النظام الدولي الحالي.

تكتسي قمة شنغهاي أهمية بالغة، ليس فقط على صعيد صياغة خطاب مضاد للخطاب الغربي داخل النظام الدولي الحالي، بل أيضاً في فسحها المجال أمام تشكّل مدرسة جديدة في إدارة التحالفات الدولية، تقوم على تنويع الدول شراكاتها وبدائلَها الاستراتيجية بما يحقّق مصالح شعوبها في التنمية والحفاظ على هوياتها الثقافية، وهو ما لا يتطلّب تحقيقه، بالضرورة، خطاباً إيديولوجياً وقيمياً وسياسياً وفق النمط الغربي.