ميلانشون .. بطل بلا أمجاد

ميلانشون .. بطل بلا أمجاد

13 ابريل 2022

ميلانشيون يخاطب أنصار حزبه في باريس (10/4/2022/فرانس برس)

+ الخط -

نجح اليساري جان لوك ميلانشون، زعيم "فرنسا الأبية" في إحداث المفاجأة، وتحقيق نتائج مبهرة أهلته ليحتل المرتبة الثالثة بين المرشّحين المتنافسين على رئاسة فرنسا في اقتراع يوم 10 إبريل/ نيسان الجاري، لكنه فشل بفارق ضئيل في التأهل إلى الدور الثاني، وهو ما يشهد على نجاح استراتيجيته وفشلها في الآن نفسه في هذه الانتخابات. لكن الفضل فيما حققه اليسار الفرنسي في هذه الانتخابات يعود إليه هو بالدرجة الأولى، فقد كان بطل الحملة الانتخابية بامتياز، سواء بطريقة خطابته الشعبية وقدرته على تعبئة الجماهير وعلى الإقناع والخطابة بطريقةٍ لا يجاريه فيها أيٌّ من منافسيه، بالإضافة إلى اللمسة التقنية التي أضفاها شباب حزبه على طريقة إخراج خطاباته الجماهيرية وعرضها عن طريق تقنية "الهولوغرام" التي لجأ إليها لبثّ خطبه الانتخابية في الآن نفسه أمام أكثر من تجمّع انتخابي، وفي أكثر من مدينة فرنسية، في اللحظة نفسها. لذلك مؤسفٌ أن يخرج مرشّح مثل ميلانشون، ينافس على رئاسة فرنسا للمرّة الثالثة على التوالي، من حلبة التنافس، بعد أن كاد يلامس حلمه، والوصول إلى مبتغاه.

لقد قاتل ميلانشون مثل بطلٍ في هذه الانتخابات، لكنّه خرج من المعركة بلا أمجاد، سوى أنّه وحركته أنقذا ماء وجه اليسار الفرنسي الذي حصدت باقي فصائله نتائج كارثية، ونجح في تثبيت حركته في مرتبة زعيمة اليسار داخل فرنسا، وفي تكريس نفسه، أكثر من أي وقت مضى، قائدا لليسار. لذلك بدا ميلانشون مساء الإعلان عن نتائج اقتراع الدور الأول متفائلاً وهو يحيّي أنصاره الواقعين تحت صدمة خيبة الأمل، ليطلب منهم من جديد فتح "صفحة جديدة من النضال" وعدم الاستكانة إلى الهزيمة. وفي خطابٍ مرتجلٍ قصير وموجز، عباراته ممزّقة بين خيبة الأمل من النتيجة الصادمة والاعتزاز برفع حركته إلى مستوى قيادة اليسار، شبّه زعيم "فرنسا الأبية" نضاله الذي لا يَكلّ بمهمة سيزيف الذي لا ييأس من إعادة رفع الصخرة كل مرّة تقع في قاع الوادي، وخاطب أنصاره من الشباب، أنّ "النضال سيظلّ مستمرّاً، وإذا لم نصل بعد سيأتي جيل ليصنع أحسن منا"... قبل أن يختفي تحت وابلٍ من التصفيق.

قاتل ميلانشون مثل بطلٍ في الانتخابات الرئاسية، لكنّه خرج من المعركة بلا أمجاد، سوى أنّه وحركته أنقذا ماء وجه اليسار الفرنسي الذي حصدت باقي فصائله نتائج كارثية

يعود الفضل في النجاح الباهر لميلانشون وحركته في الدورة الأولى من الاقتراع إلى "التصويت المفيد" لناخبين يساريين عديدين، انتهى بهم الأمر بالمراهنة على المرشّح الأفضل في الاقتراع لمحاولة إشراك أسرتهم السياسية في الجولة الثانية، وهو ما يدفع إلى تجيير هذا النجاح لليسار الفرنسي الذي أثبت أنه ما زال موجوداً وقادراً على المنافسة، وطرح الأفكار التي تجد لها صدىً في الشارع ولدى الناخبين. وفي المقابل، خيبة الأمل أو الفشل في الوصول إلى الدور الثاني، وإزاحة زعيمة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، من التنافس على منصب رئاسة فرنسا، هي خيبة أمل اليسار الفرنسي كله الذي فشل مرّة أخرى في توحيد صفوفه، بحيث تشتّت أصوات ناخبيه بين أربعة أحزاب يسارية ممزّقة، الاشتراكي والشيوعي والحزب المناهض للرأسمالية، وحزب نضال العمال.

وإذا كان هذا التمزّق ميزة الأحزاب اليسارية اليوم في أكثر من بلد، فهذا لا يعفي زعيم "فرنسا الأبية" من تحمّل مسؤوليته في الخسارة التي منيت بها حركته التي كانت قاب قوسين أو أدنى من العبور إلى المرحلة الثانية والحاسمة من المنافسة على منصب الرئاسة، فما يؤاخَذ ميلانشون عليه أنّه بنى استراتيجية على السير منفرداً، فيما كان ممكناً أن يحاول حشد اليسار خلفه، كما فعل في انتخابات 2017 عندما تحالف معه الحزب الشيوعي الذي حصل في هذه الانتخابات على 2.28 في المائة من الأصوات، وهذه النسبة كانت كفيلة بأن ترجّح كفّة مرشّح "فرنسا الأبية" للانتقال إلى الدور الثاني، فالأصوات التي حالت دون بلوغه الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية ناهزت 421 ألفاً. وإذا علمنا أنّ الحزب الشيوعي حصل على أكثر من 800 ألف صوت في الجولة الأولى، وبما أنّ الشيوعيين ناخبون منضبطون للغاية لو صدرت لهم تعليمات للتصويت لصالح ميلانشون، فلا شك أن هذه الأصوات كانت ستجعل منه منافساً قوياً على الرئاسة، لكنّها مأساة اليسار الفرنسي الذي أضاع على نفسه فرصةً يصعب تعويضها في المنظور القريب.

أكّدت الانتخابات الفرنسية أنّ قوى اليسار لم تختفِ في البلاد

لكن، ما لا تستطيع أن تخفيه النتائج الباهرة لميلانشون وحركته الهزيمة الكبرى لأحزاب اليسار التقليدية، وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي الذي ظل يتداول على الحكم في فرنسا عقوداً. كشفت نتائج الانتخابات عن وضع مأزوم لليسار الفرنسي الذي يوجد في أسوأ مراحله، مجسّداً في الأحزاب التقليدية التي ماتت أو تحتضر، وأبانت أنّها غير قادرة على تقديم حلول سياسية واجتماعية ذات مصداقية كافية، وهي اليوم مطالبةٌ أكثر من أي وقت بإعادة بناء نفسها وتطوير خطابها، فالبنية الحزبية التي سادت القرن الماضي ممثلةً في الحزبين، الاشتراكي والشيوعي، لم تعد صالحة، لكنّ الفكر اليساري ما زال موجوداً، ولديه أتباع في الشارع الفرنسي تمثله كلّ "الأصوات المفيدة" التي استفادت منها حركة ميلانشون في الجولة الأولى من الانتخابات.

توقع مراقبون كثيرون أن يروا يساراً منهاراً وضعيفاً ومنهزماً، لكن هذه الصورة توارت وراء الأداء الرائع لحركة "فرنسا الأبية" وإذا ما كان هناك من خبر سارّ حملته هذه الانتخابات إلى اليسار الفرنسي فهو أنّها أكّدت، بالملموس وبالواضح، أنّ قوى اليسار لم تختفِ في البلاد، وعليها أن تفكّر مستقبلاً في استعادة دورها داخل مجتمعها، قبل أن تختطفه قوى اليمين المتطرّف التي خرجت منتصرةً من اقتراع يوم الأحد، وقد تُحدث المفاجأة يوم 24 إبريل / نيسان الجاري، عندما تجري الدورة الثانية والحاسمة من هذه الاستحقاقات التي دقّت ناقوس الخطر لما ينتظر المجتمع الفرنسي من تمزّق في المستقبل، إذا لم يفرز أحزاباً قوية قادرة على تجنيبه خطابات الشعبويين ومغامراتهم.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).