ميشيما المهجوس بالموت
صورة يوميو ميشيما في قاعة مراسم إحياء الذكرى 40 لانتحاره في طوكيو (25/11/2010 فرانس برس)
مرّت في 14 يناير/كانون الثاني الجاري مائة عام على ولادة الكاتب الياباني الشهير يوكيو ميشيما، الذي مات منتحراً في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، في مشهد مدروس ومصمّم بعناية، قيل إنه استمرّ ستّ سنوات يفكّر ويخطّط له، هو الذي صرّح قبل أشهر من ذلك: "أشعر بالإحباط تجاه ما أصبحت عليه اليابان حالياً، ولا أجد لديّ طريقاً لتصحيح الأوضاع سوى بالكتابة".
اعتبرت الكاتبة مرغريت يورسونار انتحاره "عمله الأفضل تحضيراً"، في كتابها "ميشيما... أو رؤيا الفراغ" (1981)، وقد نقله إلى العربية الشاعر الراحل بسّام حجّار (دار التنوير، بيروت، 1984)، وفيه تكتب: "هناك حتماً توازن غير ثابت بين اهتمامنا بالرجل واهتمامنا بكتبه، وقد ولّت الأيّام حين كان بالإمكان الاستمتاع بهاملت من غير الاهتمام بشكسبير، فالفضول المبتذل حيال الحياة الشخصية هو سمة من سمات عصرنا، وهو يزداد أضعافاً بفضل أساليب الصحافة ووسائل الإعلام الموجّهة إلى جمهور غير قادر على القراءة أكثر فأكثر". وبالفعل، فإن بعضاً من شهرة ميشيما بالذات، قام على شخصيته الغريبة التي جمعت العديد من التناقضات والمواقف المتطرّفة، بقدر ما قام على أهمّية أدبه، وقد نصادف كثيراً ممّن سمعوا به وبأفعاله، من دون أن يكونوا قد قرأوا له صفحةً واحدة.
وفي حياة ميشيما، الذي انتحر في سنّ مبكّرة نسبياً (45 عاماً)، ربّما قبل أن تبلغه الشيخوخة، غرابة لا يمكن لمتتبّع أثره أن يتغاضى عنها. فهو عُرِف نرجسياً اعتنى بمظهره، وكان يُحبّ أن يتصوّر كثيراً، وأن تظهر صوره في الصحف والمجلّات؛ وهو أراد أن يكون إنساناً عادياً، فقد تزوّج وتاق لأن يحيا حياةً عائليةً، وكان رياضياً من الطراز الأول، كما أنه خاض الإخراج والتمثيل، وظهر في أكثر من دور مسرحي وسينمائي. كان ميشيما متعدِّد الوجوه، بقدر ما كان متعدِّد المواهب، وبينما لم يُبدِ في شبابه أيّ اهتمام فعلي بما كان يجري في بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية، على ما يروي بنفسه، نراه وقد انقلب إلى النقيض تماماً بعد أن بلغ ذروة النجاح والشهرة، وكان ميسور الحال يعيش حياة باذخة، فإذا به يُعبّر عن لا معنى الحياة، وعن تأثّره البالغ بتردّي الأوضاع في بلاده، التي كان يرى أنها أُذلّت وأُهينت وتقهقرت، حين قبلت شروط الاستسلام وعدم بناء جيش ومُنِعت من التسلّح. وميشيما الذي كان معروفاً بتعلّقه بالإمبراطور والتقاليد والعادات السابقة، وباعتبار الساموراي رمز الشرف والتضحية والبطولة، أسّس عام 1968، مع مجموعة من الشبّان القوميين، جمعية الدرع، وهي نوع من مليشيا خاصّة هدفها مكافحة يابان ضعيفة، وفردانية، ومهانة، من خلال استعادة إمبراطورها وتقاليد ماضيها المجيد.
أنهى ميشيما كتابة رباعيته الرائعة "بحر الخصوبة"، وسلّمها صباحاً لناشره، ثمّ توجّه مع ثلاثة من رفاقه إلى لقاء قائد جيش الدفاع - الجبهة الشرقية، بحجّة إطلاعه على سيف قديم من القرن السابع عشر. هناك، احتجز القائد في مكتبه وأمر بجمع فرق الثكنة كافّة (نحو 900 جندي)، وهكذا كان، ألقى ميشيما خطبته فيهم من على شرفة المكتب، لكنّهم سخروا منه، فارتدّ إلى الداخل، وهناك جلس أرضاً وانتحر على طريقة السيبوكو أو الهارا كيري، التي تقتضي بغرز السيف في الأحشاء، وبقطع الرأس مباشرة لكي يخفّ الألم.
و"بحر الخصوبة"، التي اعتبرها النقّاد بمثابة وصيّته، تحفة أدبية مؤلفة من أربعة أجزاء هي: "ثلج الربيع"، و"الجياد الهاربة"، و"معبد الفجر"، و"سقوط الملاك"، وتروي في الجزء الأول قصّة فتىً يدعى كيواكي، سليل عائلة نبيلة، يعيش حبّاً لا يُنسى، بحضور صديقه هوندا الذي يقف شاهداً على قصَّة حُبِّه الفريد تلك. في الأجزاء التالية، يتبدّل البطل مع بقائه هو نفسه، وذلك من خلال تناسخ الأرواح. هوندا وحده يعرف ما يربط بين الأبطال الأربعة، ثلاث شامات يحملونها جميعاً في المكان نفسه، ومجموعة من الأحلام العجائبيَّة.
جسّدت الرباعيَّة في نظر ميشيما ما تعلَّمه كاتباً. وقد أخبر أصدقاءه أنَّه لن يبقى له بعد إنهائها إلا أمر واحد: الانتحار.