ميثاق النساء... ميثاق البوح

17 فبراير 2025
+ الخط -

تسلك الروائية اللبنانية حنين الصايغ، في روايتها الأولى "ميثاق النساء" (دار الآداب، بيروت، 2023)، دروباً وعرة حافلة بالمطبّات وإشارات المرور التحذيرية التي تفيد بأن الطريق سالك بصعوبة، غير أنها تمضي إلى غايتها، غير عابئة بالعوائق والحواجز، مصمّمة على تخطّيها بقوة الكلمة.

قالت حنين، في لقاء تلفزيوني، إنها لم تقصد، في البداية، الوصول إلى مرحلة النشر، لم يخطر ذلك ببالها أصلاً، بل فكّرت بكتابة رسالة إلى ابنتها تشرح من خلالها رؤيتها للحياة والعلاقات والأقدار، غير أنها وجدت نفسها تسترسل وتكتب هذا النص الروائي البديع بفترةٍ لا تتجاوز بضعة أشهر. من هنا، جاء تدفق البوح حميمياً مؤثّراً، وقد تميّز بلغة بسيطة مكثفة تأملية عميقة، وأسلوب سرد سلس، رشيق، ممسوك ببراعة، متخفف من الثرثرة الفائضة والاستعراض المعرفي، مشحوناً بجملة مشاعر وانفعالات متناقضة، ما جعل القارئ مشدوداً بكليته، سيما أن الروائية استخدمت صيغة الأنا، وتقمّصت الشخصية المحورية، أمل، المتكلمة المنفردة على مدى النص، ما أتاح لها فضاءً مفتوحاً للتعبير والتحكّم في بناء الشخصيات، والغوص عميقاً في دواخلها، وفي سير الأحداث والتنقّل الرشيق بين الأزمنة والأمكنة، من دون عناء كبير.

تقدّم الرواية الساردة العليمة، أمل، الفتاة الدرزية الهادئة المنصاعة لاشتراطات طائفتها، ابنة الضيعة النائية المنغلقة، وهي الطامحة إلى إكمال تحصيلها العلمي في بيئةٍ صارمةٍ مغلقة، تمارس سلطة ذكورية مطلقة على النساء، فتحرمهنّ حقّ التعلم، لأن مصير البنت الزواج، وبالتالي لا يرى الوالد الشيخ الدرزي الملتزم ضرورةً لمثل هذه المصاريف الزائدة.

لا تجد أمل ابنة السادسة عشرة القارئة النهمة المسكونة بالأسئلة والتأملات وسيلة للخلاص إلا بالموافقة على الزواج، بعد أن عقدت صفقة مع العريس التقليدي، تتيح لها إكمال تعليمها. وهكذا تحقق أول انتصاراتها، وتواصل رحلة التحدّي والتحرّر من علاقة زوجية باهتة، مليئة بالصراع والتناقض، ومحاولات كسر الإرادة من زوجٍ لا تجمعها به سوى ابنتهما الصغيرة. وتنجح، في النهاية، بتحقيق حلمها بالحصول على شهادة دراسية عليا، وفرصة عمل تفتح أمامها فرصة الاستقلالية وتحقيق الذات.

كذلك، تفصح الرواية عن عوالم الطائفة الدرزية الغامضة من حيث المعتقدات، ومن حيث الطقوس الدينية والعادات والتقاليد الصارمة، وعن واقع المرأة الدرزية الخاضعة المستسلمة لمصيرها من خلال شخصيات الأم والجدّة والأخوات. وقد استلّت عنوان الرواية من كتاب الحكمة الذي تضمّن باباً بعنوان "ميثاق النساء"، تتحدّد بموجبه مسؤوليات المرأة وواجباتها الكثيرة من دون التطرّق إلى حقوقها.

تتمرّد أمل على هذه المفاهيم، وتعيد صياغة حياتها، بعد أن عثرت على الحب الحقيقي، مع رجلها المثقف غير المدّعي، المناصر للمرأة، المنحاز لحقّها في الحرية غير القابلة للتجزئة الذي أخذ بيدها وقوّى عزيمتها، وجعل منها امرأة أخرى، تدرك حقها في الحياة والحب والحرية.

تطرح الرواية التي يمكن تصنيفها بالنسوية هموم المرأة في المجتمعات الشرقية في العموم، فالقمع والاضطهاد ومصادرة الحرية لا تقتصر على المجتمع الدرزي. لذلك، تعبّر، بصدق وبلاغة، عن واقع المرأة الشرقية في العموم، وكذلك تكشف عن قوة النساء وقدرتهن على التمرّد، إذا ما توافرت لهنّ الأدوات.

أبدعت الروائية في الغوص في مفهوم الأمومة وارتباطها بالإحساس بالذنب شعوراً ملازماً للأمهات العاملات المتحقّقات، من خلال تفاصيل العلاقة المركّبة التي جمعتها بابنتها، وصراعها بين تحقيق ذاتها ورعاية ابنتها، والتصالح مع واقعٍ يلغي وجود المرأة ذاتاً مستقلة، بسبب أمومتها.

تفاصيل جمالية عديدة انطوت عليها الرواية، من حيث توصيف الأمكنة والبيوت والغابات والشوارع والجبال والبحر، والتحليل العميق الذكي لملامح الشخصيات التي ضمّتها الرواية. وقد ذهب بعضهم إلى أنها سيرة ذاتية، وهذا ما نفته حنين الصايغ، مؤكّدة أن الكاتب لا ينفصل عن شخصياته بالمطلق، ولا بد من وجود تقاطعات بين الكاتب وشخوصه، مع ضرورة عدم إغفال عنصر الخيال الذي يثري العمل.

أياً كان الأمر، نحن بصدد رواية شديدة التميز تتيح للقارئ التماهي مع أحداثها بيسر. ... تحية إلى حنين الصايغ، وهي تكتبنا، وتعبّر عن أوجاعنا بكل الصدق الممكن.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.