موهبة الآباء ومحنة الأبناء

24 أكتوبر 2024

(محمد عمران)

+ الخط -

الموهبة، تلك الهيّنة والليّنة والمعجزة أيضاً، التي نامت في صوت أمّ كلثوم خلال أجيال سابقة عليها من ترسّبات الشقاء والطمي في دلتا النيل، فأتت الأقدر بعد تراكمها في ذلك الصوت، أو في صبر نجيب محفوظ وأدبه ودأبه وحيرته، ما بين الفلسفة والأدب، حتّى قطع الخيط مع دراسة الفلسفة، فكان المعمل النادر لخلط حرير الفلسفة بشخوط الجمالية، والعطوف، وفتوات مصر، بمصائر المتعلّمين من أبناء الطبقة الوسطى وبما تركته الحرب العالمية من أزمات نفسية ومجتمعية واقتصادية، فكان نجيب محفوظ، والحناجر لا يصحّ أن تتوالد أو تتلاقح، فلم يكن بعدها، أمّ كلثوم، في ورثتها حنجرة وليدة، واكتفى الورثة بالتشريفة حول مقام الحنجرة ومقام ما غنّته، وهذا هو مقام الموهبة، لا تتناسل، ولا تُشتَل كنباتات الظلّ، ولا تُستزَرع جبراً، ولم تستطع أمّ كلثوم، ابنة نجيب محفوظ، أن تكتب بقلم جملةً أدبيةً أو حتّى قصّةً وحيدةً، وإلا لسرق أبناء بيكاسو من زوجاته خطوطه البسيطة.

ولدينا من الأمثلة الأخرى على استحالة ذلك ما يملأ البحر. وحدها مارغريت ميد، بقرار وإرادة بريطانية، عالمة أنثروبولوجيا قرّرت أنّها ستجعل من ابنتها عالمة أنثروبولوجيا، وقد كان لها ما أرادت، وذلك هو قرار الأمّ، وليس رغبة الابنة ومحاولتها "التكويش" على التركة، كما يظنّ بعض الأبناء، وهل ما تركته الابنة ماري عالمة أنثروبولوجيا يقترب ممّا تركته الأمّ، علاوة على أنّ ذلك برمّته كان في مضمار البحث العلمي، وليس في تفريخ الموهبة ومحاولة تدجينها أو تفقيسها في معمل أو مناخ مناسب، بحكم العَشَم الجارف، والرغبة المهلكة للاثنين معاً أحياناً، كما هو الآن في مضمار التمثيل وصناعة وتصنيع الفنّ أمام الكاميرات الموجّهة.

لا أعرف إنْ كان للقدّيس أوغسطين ولد أم لا، ولا يهمّ، حتّى إن كانت له ذرّية تبعثرت منه في أوروبا خلال أحلامه، ولكنّي أعرف أن بوذا عزف عن الزواج برمّته، وعن الإمارة أيضاً، رغم إلحاح والدته، تاركاً مُلْك العائلة للريح، فجاءه المُلْك الرمزي في طبق الزهد الذهبي بلا مناكفة، ومن دون حمل سيف من حديد دفاعاً عن المُلْك المزعوم.

ظلّ مارلون براندو هناك جريحاً في جزيرته بعد ما تناثر البؤس والقتل في جنبات البيت، وانتحرت ابنته بسبب مقتل حبيبها بيد الأخ المُحبّ للقتل كريستيان، مدمن المخدّرات وصاحب الميول العنيفة، التي تصل إلى حدّ القتل، الذي مات مفلساً أيضاً، لم يحاول براندو أن يرمّم المصائب بأن يلبس الأبناء حلل التمثيل أو الفضيلة أو الموهبة كذباً وزوراً كما يفعل بعضهم، بل ذكر في تواضع وحزن شفيف، بلا إنكار أو تبجح، وقال: "أعتقد أنّ ذلك مردّه إلى أنّني فشلت أباً"، وكانت عزلته في تاهيتي قاطعة وأخيرة. العمدة، في الشرق خاصة، يتمنّى بعد ما ينظر لأطراف فدادينه القليلة وغرفة السلاح في مندرته، وهي سلطة عنيفة على أيّ حال، أن يكون المالك من بعده هو الابن. والقاضي وهو يتأمّل ساحة القضاء، وهو يخب في زيّه، يتمنّى أن يكون وريثَ الكرسي هو ابنه، حتّى إن كان مجموعه لا يزيد عن 50% إلّا قليلاً، فما بالك بضابط الجيش والشرطي، فلماذا لا يفعلها الجرّاح في القصر العيني أيضاً، ويورّث هو الآخر أولاده وبناته، وقد فعلها الممثّل والسمسار وتاجر الأقمشة والخيش، إلّا أنّ الموهبة تظلّ هي العصيّة على العشم، فهل نحمد الله أنّ أبي العلاء المعري لم يترك لأحد خلف ظهره هذا العشم؟

سخّر الله للمَلِك سليمان الطيرَ، وكان يميل ناحية العشق والجمال، وخاصّة في حكايته مع بلقيس، أما داوود فقد لان له الحديد وضرب بالمقلاع من آلاف السنين، فهل ضاقت الحياة بالفعل على الموهبة حتّى صارت في ندرة الذهب، فنحلبها حلباً من أسماء الآباء من دون خجل، رغم أن ذلك مآله الفشل؟

صاحب الموهبة باحث فقير عن الذهب، وهو حالة فريدة، دفع فيها ما لا ندريه من ثمن في رحلة البحث، والابن حالب الاسم كحالب البقر في الحظائر من الاسم، وساحب الزبد من اللبن بالآلة، من دون أن يرعى مواشيه في الجبل، ومن دون أن ينام تحت القمر في الليل ويستمع لصوت الذئاب، ومن دون أن يعرف فحيح الثعابين والفرق ما بينها وبين سقوط المطر على رأس الجبل.