موقف أفريقي شجاع
الصورة تذكارية للمشاركين في فمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا (15/2/2025 فرانس برس)
الدعوات التي صدرت عن القمة الـ38 للاتحاد الأفريقي، في أديس أبابا، تنم عن موقف أفريقي شجاع، ينتصر للحق والقانون ضد الظلم والعدوان، في قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية. ومن يطالع البيان الصادر عن القمة التي اختتمت أشغالها نهاية الأسبوع الماضي يجده مكتوبا بلغة واضحة تسمي الأشياء بمسمّياتها الحقيقية بدون لف أو دوران. فقد دانت القمة، التي حضرتها السلطة الفلسطينية بصفتها عضواً مراقباً داخل الاتحاد، بشدة، "الحرب الإسرائيلية" و"العدوان الهمجي" على قطاع غزّة، وأكدت رفضها انتهاكات إسرائيل القانون الدولي واستهدافها المدنيين والبنية التحتية. وقالت بوضوح تام إن "الاحتلال الإسرائيلي يرتكب إبادة جماعية"، مشددة على ضرورة محاكمة الكيان الصهيوني على جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها بحق الشعب الفلسطيني. كما دعت القمة، في بيانها، "إلى وقف أي شكل من أشكال التعاون أو التطبيع مع الكيان الصهيوني حتى يُنهي احتلاله وعدوانه على فلسطين". وأعلنت القمة الأفريقية رفضها تهجير الفلسطينيين من أرضهم، معتبرة أنه مخالف للقانون الدولي. وطالب القادة الأفارقة بالإفراج الفوري عن جميع الأسرى الفلسطينيين، خصوصا النساء والأطفال، وضرورة إنهاء الاحتلال والانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967، لأن الحل السياسى القائم على حل الدولتين وإقامة دولة فلسطين هو السبيل الوحيد لضمان الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
قوة بيان الاتحاد الأفريقي في عدد الدول التي يتألف منها الاتحاد، 55 دولة، تمثل أكثر من 1.3 مليار نسمة. وعندما نعرف أن البيان الختامي يصدر بالإجماع ندرك ما يحمله من رسائل قوية موجّهة إلى الكيان الصهيوني أولا، وإلى المجتمع الدولي ثانيا، فهذا صوت قارّة بأكملها، قرّر قادتها أن يعتبروا ما يجري في غزّة عدوانا همجيا وإبادة جماعية في حق الفلسطينيين، بالرغم من أن القارة تضم ثلاثة معسكرات متناقضة: مؤيد لإسرائيل، تمثله كينيا وغانا والكونغو الديمقراطية وزامبيا والكاميرون وروندا؛ ومؤيد للفلسطينيين، تمثله جنوب أفريقيا والجزائر والسودان وتشاد وتونس وعديد من بلدان شمال أفريقيا الأخرى؛ وأخيراً معسكر عدم الانحياز، الذي تمثله بشكل واضح نيجيريا وأوغندا وأنغولا وتنزانيا. وإصدار هذا الموقف القوي والشجاع يعود فيه الفضل إلى المعسكر المؤيد للحق الفلسطيني، بقيادة جنوب أفريقيا بما تمثله من ثقل رمزي داخل القارّة وفي العالم، وخاصة بعد قرارها الشجاع مقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
طالب القادة الأفارقة بالإفراج الفوري عن جميع الأسرى الفلسطينيين، خصوصا النساء والأطفال، وضرورة إنهاء الاحتلال والانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967
وكانت تلك الدعوى بشأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة بمثابة تذكير بالعلاقات المضطربة بين القارّة الأفريقية وإسرائيل. فمنذ بدء الحرب على غزّة، تراجع نفوذ الدولة العبرية داخل عديد من الدول الأفريقية، بالرغم من محاولات تل أبيب استعادته، سيما من خلال مبيعاتها الأسلحة وأدوات الأمن السيبراني، والدعم العسكري والتكنولوجي أو بالاعتماد على صعود التيارات المسيحية الإنجيلية في القارّة السمراء. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2024 دعت منظمات صهيونية إلى قمة غير رسمية، تحت عنوان "مبادرة أفريقيا إسرائيل"، حضرها اسرائيليون وحفنة من البرلمانيين الأفارقة في أديس أبابا، كان هدفها الأساسي ترميم صورة الدولة العبرية التي تشوّهت في القارّة منذ حربها العدوانية على غزّة. ووقع هؤلاء المسؤولون المنتخبون والزعماء الدينيون، المقرّبون من الدوائر الإنجيلية، من حوالي 20 دولة أفريقية، على بيان "يرفض معاداة الصهيونية باعتبارها شكلاً من معاداة السامية"، ويعترفون بالقدس عاصمة شرعية وغير قابلة للتجزئة وأبدية لدولة إسرائيل. ورغم أن الإعلان غير ملزم، فقد مثل نجاحا رمزيا للدولة العبرية التي خسرت كثيرا على المستويين، الرمزي والأخلاقي، منذ أن بدأت حربها العدوانية على غزّة.
قوة بيان الاتحاد الأفريقي في عدد الدول التي يتألف منها الاتحاد، 55 دولة
تاريخيا، دفعت العواقب الإقليمية للحروب العربية الإسرائيلية في 1967 و1973 معظم الدول الأفريقية إلى تبنّي القضية الفلسطينية. ولكن منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وخاصة بعد التوقيع على اتفاقات أسلو، نجحت تل أبيب في اختراق القارّة السمراء ومضاعفة الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية مع ادول أفريقية عديدة، لكن عدوانها على غزّة منذ 16 شهراً أثار ردود فعل متباينة داخل أفريقيا، بحيث إن عددا قليلا فقط من الدول هي التي أعربت علناً عن دعمها إسرائيل يوم السابع أكتوبر (2023)، وعندما عبرت الدول صاحبة الوزن الثقيل داخل القارّة السمراء، مثل جنوب أفريقيا والجزائر ونيجيريا، عن مواقفها بطريقة واضحة، أصبح من الصعب على الموقف الأفريقي العام والموحد الذهاب في الاتجاه الآخر.
اليوم، لا تملك إسرائيل سوى 12 سفارة في أفريقيا، آخرها التي فتحت في رواندا عام 2019، بالإضافة إلى مكتب اتصال في المغرب فتح منذ تطبيع العلاقات نهاية 2020، وطوال السنوات الخمس الماضية لم تحقق إسرائيل أي اختراق ملحوظ في اعتراف الدول الأفريقية بها، بحيث أصبح انحسار المدّ الإسرائيلي داخل القارّة السمراء واضحاً. وفي المقابل، لا وجود لحضور عربي قوي يقوم على استراتيجية تُضعف المد الإسرائيلي، وتقوي علاقات الدول العربية مع القارّة السمراء. وحتى على المستوى السياسي، وخاصة المتعلق بالقضية الفلسطينية، لا تعطي الدول العربية المثال للآخرين، فبيان قمة الاتحاد الأفريقي أقوى من بياني القمتين العربيتين اللتين انعقدتا منذ بدء العدوان على غزّة، والمؤمل أن يكون بيان قمّة القاهرة المنتظرة في مستوى البيان الأفريقي، إن لم يكن في استطاعة مقرّريه الخروج ببيان يتضمّن مواقف وقرارات أقوى تشجّع الآخرين في قارّات مختلفة على مساندة القضية الفلسطينية، وتبني مواقف أكثر وضوحا تجاه الجرائم الصهيونية، في انتظار أن تتضح الصورة أكثر ويكتشف العالم خطورة المشروع الصهيوني ليس على الفلسطينيين أو العرب فقط، وإنما على العالم أجمع.