مواطن خارج الفواتير

مواطن خارج الفواتير

19 يونيو 2022
+ الخط -

يخضع المواطن الأردني هذه الأيام إلى سلسلة تهديداتٍ رسميةٍ مدروسة بعناية، بدأت بوزير الداخلية، الذي توعّد برفع أسعار المشتقات النفطية أربع مرّات، وليس انتهاء بوزير المياه والريّ، الذي هدّد، هو الآخر، قبل أيام، بإجراءات رادعة ضد كل مواطنٍ تسوّل له نفسُه السطو على قطرة مياه بطرق "غير شرعية". ولا أستبعد، غدًا، أن يبرز وزير الطاقة ليتوعد "لصوص الكهرباء"، طالما أنّ الوزراء على دين رئيسهم بشر الخصاونة، صاحب "العين الحمراء" المشهورة، عندما توعّد، هو الآخر، بإيقاع أشدّ العقوبات بحقّ الرهط الذين سمّاهم "المتلاعبين بالأسعار"، وقال بالحرف الواحد إنهم سيرون من الحكومة "العين الحمراء"، غير أن الأسعار ارتفعت، وانفجرت، ولم تحمرّ العين على أي متلاعبٍ بالأسعار؛ لأن الحكومة ذاتها هي من ترعى الرفع، باعتبارها صاحبة الولاية على السلعة الأهم في البلد (المشتقّات النفطية)، التي تجرّ خلفها معظم الارتفاعات الأخرى، لكونها تتغلغل في سائر محرّكات الاقتصاد الأخرى. وفي مقابل ذلك، برزت "العين الحمراء" فعليًّا، لكن على الضحية التي عانت من ارتفاع الأسعار ولم تبلع السكين.

عمومًا، استوقفني وعيد وزير المياه والريّ، حصرًا؛ لأنه يبرهن على مقولة الأسد والنعامة، عندما يلزم التفريق بين عدوّين، خارجي وداخلي، فمعاليه، الذي هددّ عدوّ الداخل (المقصود المواطن بالطبع) بكل هذه الحدّة والشراسة إن هو غامر بالاقتراب من قطرة مياه "خارج الفاتورة"، سيتعرّض إلى أشدّ العقوبات التي نصّ عليها القانون، علمًا أن معظم المتورّطين بقضايا السطو على المياه، إما مزارعين معدمين يسعون إلى الحصول على المياه من الآبار الجوفية، وهؤلاء يتعرّضون فعلًا إلى الملاحقة والمحاسبة وردم آبارهم. والفئة الأخرى معظمهم من أرباب المزارع والحيازات الكبرى، وأغلبهم متنفّذون كبار، يسطون على المياه من أنابيب النقل الرئيسية من دون أن يطرف لهم جفن، أو عبر حفر الآبار الجوفية على الملأ، وفي العلن، وهؤلاء لا تجرؤ الدولة على محاسبتهم، وتعترف بذلك بلا وجلٍ في التصريحات الرسمية. وفي المحصلة، لن ينفّذ الوعيد إلا على الغلابى، أعني صغار المزارعين، والمواطنين خارج الفواتير الذين قطعت عنهم المياه جرّاء عجزهم عن سداد أثمانها.

أما عند الحديث عن عدوّ الخارج، الذي سطا على روافد الأردن الأساسية من المياه، وأعني به الكيان الصهيوني، الذي يحوّل ما يزيد على ثلاثة أرباع تدفّقات نهر الأردن إلى بحيرة طبرية، فلا يجد الوزير حرجًا من لعب دور النعامة؛ لأن الحرب مع هذا العدوّ لم تعد واردةً أصلًا، في ظل معاهدة وادي عربة التي لم تلتزم فيها إسرائيل بأهم بند فيها، متمثلًا بحصّة الأردن من مياه نهر اليرموك. هنا يتلعثم الوزير، وتميع لغة التهديد والوعيد. وعلى الأرجح، أنه لو نطق فسينطق كفرًا، ولعلّ الأفضل لنا أن يصمت؛ لأنني لا أستبعد أن يقول إن المياه التي تسطو عليها إسرائيل من حقّها، باعتبارها أكبر "المتنفذين" في الإقليم كله.

والغريب أن مسؤولين كبارًا في الأردن يتحرّجون عن ذكر اسم لصّ المياه الحقيقي، على الرغم من أنهم يعترفون بذلك ضمنًا، فأحدهم حاول المواربة، خلال مداخلة له في أحد المؤتمرات، عندما وصف الوضع المائي في الأردن ودول المنطقة بأنه كارثيّ منذ العام 1967، وبأنه "زاد سوءا، خاصة ما يتعلق بانخفاض تدفق الأنهار في العراق والأردن ولبنان وسورية وتركيا، بما معدّله من 50% إلى 90%".

والعبارة المقتبسة أعلاه وردت على لسان ذلك المسؤول حرفيًّا، لكنه لم يشأ أن يعترف بأن المسؤول عن انخفاض التدفق في الأنهار الأردنية تحديدًا هو الاحتلال الصهيوني، بل اكتفى بإبراز سنة الاحتلال فقط (1967)، تاركًا للسامع أن يفهم المقصود وحده، تمامًا كما على النعامة المستأسدة أن تدفن رأسها كلما تعلّق الأمر بإسرائيل.

على هذا النحو، يستأسدون على المواطن الغلبان، ويتصاغرون أمام الوحش الصهيوني الذي يوشك أن يبتلع كل شيء، لكن سواء تواصل مسلسل استئساد النعامة أو تصاغرها، فهي لن تجد، عمًا قريب، مواطنًا واحدًا داخل الفواتير.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.