مواجهة ترامب عربياً
لم تقم الدول العربية بما عليها للتعاطي مع خطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، فقد مرّت أيامٌ على الإعلان الصريح الرسمي عن تلك النية، وقبلها مرّت شهور على تسريبات إسرائيلية وأميركية حول "إخلاء غزة" من أهلها الفلسطينيين، بحجج ومزاعم مختلفة. بدأت بعد طوفان 7 أكتوبر (2023) خياراً إسرائيلياً مفضلاً للقضاء على "الإرهاب" الفلسطيني، ثم حلّاً مستقبلياً لتتخلّص إسرائيل من أزمتها الدائمة مع غزّة. ثم أجّلت تل أبيب قبولها اتفاق وقف إطلاق النار حتى يدخل دونالد ترامب البيت الأبيض، ويعلن بنفسه مقترح التهجير بشكل رسمي هذه المرّة. محمولاً بالطبع على زخم بدايات رئاسته الثانية، ومُعزّزاً بحالة الرهبة الذاتية التي تتلبّس دولاً كثيرة تجاه "ترامب الثاني"، وما يضمره في ملفات وقضايا كثيرة.
ولذلك، يدرك الساسة والمسؤولون العرب جيداً أن طرح فكرة تهجير سكان غزّة هذه المرّة تختلف عن سابقاتها؛ فهي حالياً مطروحة بإلحاح في سياقٍ يقلّل من صعوبتها، خصوصاً من الناحية العملية والتنفيذية بعد تدمير القطاع بشكل شبه كامل، بنية تحتية وأبنية فوقية ومرافق حيوية وخدمات أساسية. وطوال الأشهر الـ15 التي استغرقتها حرب إبادة غزّة وأهلها، كان خيار التهجير يطل برأسه كل فترة قصيرة بألسنة إسرائيلية وأميركية. وكان الرد المصري برفض الفكرة مبدئياً تارة، وفي اتجاه سيناء تحديداً تارة أخرى. ولم يحدث أن اتخذت القاهرة تحرّكاً يثبت الرفض عملياً.
وإذا كان هذا هو حال مصر الأكثر تضرّراً من التهجير، فلا غرابة أن تبلع بعض الدول ألسنتها. أما بقية الدول العربية، فلكل منها حساباتها ومصالحها ومخاوفها. ورغم الخطاب العلني برفض التهجير وضرورة وجود الفلسطينيين فوق أراضيهم، لا أظنّ أن أي دولة عربية تعتبر هذا الموقف نهائياً أو خطاً أحمر، بل إن بعض الدول تشارك إسرائيل الرغبة في التخلص من غزّة ومن مقاومة ترفع شعارات إسلامية. والدول التي لها موقف صادق مؤيد للفلسطينيين، ولو نسبياً، لا تملك أوراق ضغط قوية، لا على إسرائيل ولا على "شقيقاتها" العربيات.
ورغم أن الدول العربية تدرك جيداً أن قوتها الكاملة لا تظهر ولا تتبلور إلا من خلال موقف واحد تعبّر عنه جامعة الدول العربية، اتفقت جميعاً على تهميش الجامعة واستبعادها من أدوات تعاملها السياسي، لتتصرّف كل دولة على حدة، كيفما تشاء وفق مصالحها الفردية. وبمجيء ترامب أصبحت الدول العربية بمواجهة مسؤولياتها في مواجهة رجل تجارة لا يخفي صفقاته، ويحرج أصدقاءه قبل أعدائه. ولذلك فإن للجامعة في هذه المرحلة دوراً مهماً سيرفع الحرج عن معظم الدول العربية، مصر وغيرها من دولٍ تتحرّج من أي موقف ضد واشنطن أو ربما تل أبيب.
مطلوب بشدة وخلال أيام، عقد قمة عربية طارئة تتخذ مواقف عملية في هذا الملف المصيري. وتتبنّى تحرّكات جدية وعاجلة نحو إعادة إعمار القطاع. وتهديد واشنطن بعقوباتٍ دبلوماسيةٍ واقتصادية، وتوجيه وفود إلى العواصم العالمية الكبرى، ومطالبة الأمم المتحدة وأذرعها القانونية بالتحرّك للتصدّي لهذا التعدّي على حقوق الإنسان وانتهاك القانون الدولي الإنساني.
على أن يكون ذلك كله مقرونا بعقد مؤتمر عالمي بإشراف الأمم المتحدة لإحياء عملية السلام الأصلية التي تمزّقت تحت دبابات إسرائيل، وتجديد الالتزام العالمي بحل سياسي سلمي شامل وعادل ونهائي لتلك القضية. وإلا فليتم إغلاق هذا المسار إلى الأبد، ولتطلقوا يد المقاومة، فهي الوحيدة التي استطاعت كسر إرادة إسرائيل وإذلالها فعلاً لا قولاً.