شكّل الهجوم الذي وقع في وسط بغداد في 21 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، وأوقع عشرات القتلى والجرحى، مؤشّراً خطيراً على قدرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على شن هجمات دموية، على الرغم من مضي ثلاثة أعوام على إعلان رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، النصر على هذا التنظيم، وطرده من الأراضي العراقية. وجاء التفجير الذي تبنّاه التنظيم بعد هجمات شنها على مواقع للجيش العراقي والحشد الشعبي في مناطق شمال العراق وغربه، وأوقعت عشرات القتلى والجرحى في القوات الأمنية العراقية، وهي في تصاعد يؤكد إمكانية التنظيم في شن الهجمات، وقدرته على استعادة زمام المبادرة.
وتفيد التقديرات الاستخباراتية بأن عدد مقاتلي "داعش" في كل من سورية والعراق يمكن أن يصل إلى نحو عشرة آلاف مقاتل، بينهم نحو أربعة آلاف، ينتشرون في المناطق الواقعة غرب العراق وشمال غربه، وهو رقم كبير جداً بالقياس إلى العمليات العسكرية التي استهدفت التنظيم منذ 2014 وحتى 2017. ويستغل التنظيم الخلافات السياسية في العراق، والأزمات بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة، للعودة وتنظيم صفوفه، فالتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة يتعرّض، هو الآخرن إلى محاولاتٍ عراقيةٍ، تقودها قوى تابعة لإيران، من أجل إخراج قواتهم من العراق، على اعتبار أن تنظيم داعش انتهى، ولم تعد هناك حاجة لتلك القوات.
الخلافات بين القوى السياسية العراقية، وأحداث التظاهرات في عدة مدن تعد قاعدة شعبية لأحزاب السلطة، أسهمتا في إمكانية عودة تنظيم داعش
وكان البرلمان العراقي قد صوّت، عقب عملية اغتيال الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، قرب مطار بغداد، مطلع يناير/ كانون الثاني من العام الماضي، بأغلبية الحاضرين، وأغلبهم يمثلون قوى شيعية، على إخراج القوات الأميركية من العراق، وهو القرار الذي تبعه انسحاب تدريجي لتلك القوات من أغلب القواعد العسكرية التي كانت فيها، ما عدا وجودا مركزيا متمثلا بقاعدة عين الأسد، ووجودا آخر قرب مطار بغداد في قاعدة فيكتوري، وأيضا وجودا عسكريا في القاعدة الأميركية في أربيل. وقد أثرت الرغبة العراقية، متمثلة بقواه السياسية الشيعية، بإخراج القوات الأميركية، بشكل كبير على العمليات التي كان يقوم بها التحالف الدولي ضد التنظيم، وهو ما سهل إمكانية عودة التنظيم إلى شن عدة هجمات على القوات العراقية و"الحشد الشعبي"، بالإضافة طبعاً إلى الهجوم في العاصمة بغداد أخيرا. كما أن الخلافات بين القوى السياسية العراقية، وأحداث التظاهرات في عدة مدن تعد قاعدة شعبية لأحزاب السلطة، أسهمتا في إمكانية عودة التنظيم، خصوصا أن امتداد التنظيم الجغرافي مع الصحراء السورية وفّر له حاضنةً بالغة الأهمية، أسهمت في تسهيل عودة تنظيم صفوفه.
مع ذلك، تبدو كل هذه الأسباب ثانوية، إذا ما قورنت بأسباب أخرى قد تبدو أكثر منطقيةً، لعل منها أن أطرافاً مستفيدة من هذا التراخي الأمني الذي يساعد التنظيم على تجميع مقاتليه لشن مزيد من الهجمات، فهناك أطراف سياسية داخل بيت السلطة في العراق بدأت تفقد حاضنتها الشعبية، إثر تظاهرات تشرين التي رفضت العملية السياسية بكل أطيافها. وتبدو هذه الأطراف اليوم معنيةً، أكثر من أي وقت مضى، بأهمية وجود عدو مخيف، يمكن أن يساعدها على إعادة وجودها الشعبي، والاستقواء على المتظاهرين ومطالب الشعب. ولا يبدو أن هناك أفضل من "داعش"، المخيف والمرعب، يمكنه أن يسهم في إعادة تموضع هذه الأحزاب والمليشيات التابعة لها. كما أن إيران التي باتت لعراقيين كثيرين دولة غير مرغوب بها، بسبب سيطرتها على القرار العراقي، من خلال أذرعها الحزبية أو المسلحة، تبدو هي الأخرى في حاجة إلى عدو تستعيد من خلاله سطوتها على الشارع العراقي.
يدرك داعش جيداً أن أفضل بيئة له ولوجوده هي التناقضات والأرض الرخوة التي تنشأ عنها
وغير بعيد عن هذا المشهد، فإن الولايات المتحدة التي تقود التحالف الدولي للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية معنية، هي الأخرى، بإعادة التموضع داخل العراق، وهي التي تدرك جيداً أن العراق، بقواته الأمنية وتنظيماته المليشياوية المسلحة، المتمثلة بالحشد الشعبي، لن يكون قادراً على وقف هجمات التنظيم، ما يعني اضطراره للاستعانة بالتحالف، وهو تحديداً ما جرى قبل أيام، بعد أن تمكنت طائرات التحالف من قتل شخصيات قيادية في التنظيم.
في المقابل، لا يبدو "داعش" في عجلة من أمره، فهو يدرك جيداً أن أفضل بيئة له ولوجوده هي التناقضات والأرض الرخوة التي تنشأ عنها. وبالتالي، قد تكون هجماته التي يشنها بداية لموجة دموية تجتاح مدنا عديدة في العراق وتهدد سلامه الهشّ، ولعل ذلك سيكون مرتبطاً بموجة الخلافات السياسية التي قد تنشأ مع قرب موعد الانتخابات التي كانت مقرّرة في يونيو/ حزيران، وتأجلت إلى أكتوبر/ تشرين الأول. ولكن التنظيم، هذه المرة، لن يكون معنياً بالسيطرة على الأرض كما حصل عام 2014، فهو استوعب الدرس جيداً، وأدرك، بعد خسائر كبيرة في أرواح المدنيين والبنى التحتية للمدن، أن السيطرة على الأرض، هذه المرة، ستكون أصعب بكثير مما جرى قبل أعوام. ولذا ستركز عمليات التنظيم على إيقاع أكبر عدد من الضحايا، وإحداث شرخ أوسع في بنية العملية السياسية المتداعية أصلاً، ما يجعل من قادم الأيام تحمل مفاجآت كثيرة غير سارّة للعراقيين، بعد أن حوّل ساستهم ملف الأمن والاستقرار إلى ملف سياسي وانتخابي بامتياز، حتى لو كان ذلك على حساب الشعب.