من مسلسل "معاوية" إلى فيلم "أبو لؤلؤة" ...

من مسلسل "معاوية" إلى فيلم "أبو لؤلؤة"... ارحموا أرواحنا

04 مارس 2023
+ الخط -

كأن هذه البلاد، العربية والإسلامية، تعيش مللاً فظيعاً؛ نتيجة الرفاهية والتطوّر التقني وتوفير جميع الخدمات، وعزوف الشباب عن الهجرة، ولا نتائج كارثية لأثار العنف والإرهاب وبقاياهما على الحواضن التي اجتاحتها. أو كأننا لسنا سوى شعوب منذورة للفقر والعوز والمجاعات، مُبتلاة بالأزمات الفكرية وبالحروب والأنظمة المستعدّة للفتك بحيوات شعوبها لأجل استدامتها، ولا ينقصها شيءٌ سوى استجلاب نسق تاريخي مرير ومرعب في تاريخ الإسلام والإسلاميين، وأثرِه على سائر المنطقة وعموم الشعوب فيها، نسقٍ تاريخي قسّم المسلمين إلى فريقين متخاصمين منذ أكثر من 1400 سنة، ولا تزال المجتمعات الإسلامية تدفع ثمنها.

مناسبة هذا الحديث إعلان مجموعة MBC عن إنتاجها وتصويرها حاليا مسلسل "معاوية بن أبي سفيان"، بنية عرضه في شهر رمضان المقبل، وسط حمولة مركّبة وضاغطة من الأزمات والمشكلات التي تعتري الشعوب المُستهدفة بهذا العرض. ليأتي الرد من فضائية "الشعائر" العراقية لإنجاز فيلم يمجّد أبا لؤلؤة، الذي تؤكد الحقائق التاريخية قتله الصحابي عمر بن الخطاب.

عاصفة كبيرة من النقد والرفض لمسلسل "معاوية" وفيلم "أبو لؤلؤة" سبقت عرضهما. وربما لبعض الأطراف مصلحة في ذلك،

ويدرك المتابع لسلسلة الحوادث والسياسات المتبعة في جمهوريات عربية عديدة حجم التغلغل الطائفي في الخطاب السياسي والديني، خصوصا أن الإسلام السياسي لا يزال يسعى، بكل قوته، إلى تصدّر المشهد السياسي. وخلال السنوات الماضية، بعد الربيع العربي، وتفكيك الشعارات التي رافقت قسما كبيرا من خطابات الجماعات المسلحة والفصائل العسكرية، وعبارات التدوين على الجدران وغيرها، يتضح الفرز على أساس الهويّة والمذاهب والطوائف الدينية. وتالياً، من الطبيعي أن تكون تصرّفات "حملة السلاح" وتوجّهاتهم ضمن كل فصيل منتمية إلى التسميات والعناوين التي تلعب دوراً مدماكياً هويّاتياً في الشحن النفسي والتوجيه السياسي والعسكري للمنتمين إليها. بل إن قسما كبيرا من الحركات المتطرّفة إنما جعلت من تلك الحوادث التاريخية بين السّنة والشيعة ديدناً لمزيد من المواجهات وحركات التطرّف، سواء ضد بعضها بعضا، أو الاستناد إلى تلك الحقبة في أعمالها وتصرّفاتها مع أيّ طرفٍ آخر. علماً أن جعل تلك الحوادث والتسميات والتوجهات خلفية لاستحضارها ما عاد يتناسب وروح العصر الحالي ورغبة المجتمعات بالاستقرار والبحث عن العدالة الاجتماعية والقانون. وبلمحة سريعة إلى المناطق والمدن التي اجتاحتها الحروب المذهبية والصراعات الهويّاتية خلال العقد الأخير، يُلاحظ بسهولة تفاقم حجم الفقر وتحجيم دور العقل.

يدفعنا إنتاجا المسلسل والفيلم (وعرضهما؟) إلى طرح سؤال مركّب، طرفه الأول: هل سيتبنّى التاريخ والسرديات والأحداث التي تدافع وتناصر السّنة ضد الشيعة، أم سيتبنّى طروحات الثاني وتوجهاته ضد الأول. علماً أنه لا توافق على التاريخ الاسلامي وحوادثه وأولوية خلافة الرسول (ص)، وكذا بشأن تولية علي بن أبي طالب. عدم تحديد الرسول خليفة له بعد وفاته، وتعيين أبو بكر الصديق الذي عيّنه كبار المسلمين عبر الشورى في سقيفة بني ساعدة أول خليفة شرعي. والطرف الثاني للسؤال: هل سيأتي مسلسل "معاوية" بجديد، مغاير لما جاء في كتب التاريخ الإسلامي ووقائعه، وسيعرض فكرة جديدة للعيش المشترك، وهي الطوباوية المفرطة في تغيير الحوادث. ورُبما لا شيء يُفيد إلا الخروج من عباءة تلك الأحداث، وترك كل فئة، أو مذهب، تعيش وفقاً لراهن الحال من دون حروب أو مواجهات.

يدرك المتابع لسلسلة الحوادث والسياسات المتبعة في جمهوريات عربية عديدة حجم التغلغل الطائفي في الخطاب السياسي والديني

ليست المرة الأولى التي تُعرض فيها المسلسلات التاريخية، بل غالبا ما شهد شهر رمضان مثل تلك العروض، بدءًا من سير الخلفاء الراشدين، إلى الصحابة، وصولاً إلى صلاح الدين الإيوبي، وعمر بن الخطاب وجمال عبد الناصر وغيرهم. ولم تحظ كل تلك الشخصيات بالإجماع الشعبي، بل لها معارضون أو من يتهمها بأخطاء أثرت بشكل مباشر على التاريخ ومجرياته وحروبه، أو طريقة إدارة شؤون البلاد. ولكن لمرحلة معاوية تحديداً إشكالات مخيفة، وإنْ ليس من الصواب والحكمة والقيمة المضافة الخوض عبر هذه المقالة في الحوادث التي رافقت فترته وتلتها، فكيف والحال هذا مع عرض مسلسلٍ تاريخي لا يُمكن الفكاك من النسق التاريخي الذي أوصل معاوية إلى سدة الحكم، وما سبقه من صراعات وخلافاتٍ، أثرت بعمق، بل سيرت كل المواجهات التي سبقت فترة حكم معاوية وما تلاها من خلافات تسبّبت بشقّ صف المسلمين وما زال مستمرّا، خصوصا أن معاوية تولى حكم الشام بعد أخيه يزيد في زمن عمر، واستمر حكمه قرابة 40 عاماً، منها في فترة عمر ثم في فترة خلافة عثمان بن عفان"، وخلافة علي بن أبي طالب، خصوصا أنه وفقاً لما سبق أن عرض المسلسل من سرديات وأحاديث عبر وسائط إعلامية مختلفة، وطبيعة المنهج التاريخي الذي يفرض ذكر الحوادث بتسلسل منطقي وأمانة علمية، فإن واقعة الجمل عام 36 هجرية، ومعركة صفين عام 37 هجرية، ستكونان من ضمن حلقات المسلسل، وهي المعارك التي كانت امتداداً ونتيجة للفتنة وتبادل الاتهامات ما بين عدم القصاص من قتلة عثمان بن عفان أو أخذ علي المزيد من الوقت للتروّي ولتبيان القتلة الحقيقيين... إلخ. وفيلم "أبو لؤلؤة" هو الآخر خطير ويضر بكل المسلمين، الشيعة والسنة معاً، هو تاريخ نحر المسلمين، وهي فتنة لئيمة تُمجّد قاتلاً، ويختصر تاريخاً كاملاً عبر خنجرٍ مسموم غُمد في جسد الخليفة عمر. وأبو لؤلؤة لم يكن يوماً لا من الخلفاء ولا من الأئمة الشيعة، لكن ثمّة من يسعى لترويجه بطلا.

لعلّه قرار حكيم منع السلطة العراقية عرض "معاوية" على شاشة "MBC العراق". ففيما تلك المرحلة التاريخية جزء من الحياة الطبيعية والسيرورة التاريخية للمسلمين، إلا أن عرض مسلسل تلفزيوني درامي ليست معلومة تماما كل تفاصيله بعد عن تلك الحقبة العاصفة في تاريخ الإسلام، وما شهدته دول المسلمين من إرهاب وعنف وشلالات للدم، يخدم السياسات أكثر مما يخدم الاستقرار المجتمعي. وصحيحٌ أن مراكز دعوية وأقلاما ومواقع ووعّاظ منابر لم يتوقفوا عن ضخ مزيد من الخلافات والفتن، لكنه هدرٌ للمال ولمزيد من الوقت، ليأتي الإعلام ويختصر عمل وجهد أشهر وسنين لهؤلاء في شهرٍ واحد، وبكلفة مائة مليون دولار، كفيلة بإطعام ملايين الجائعين والمحتاجين وطلبة الجامعات والدراسات العليا والبحث العلمي.

يلعب التلفزيون دوراً هاماً وريادياً في إشاعة الانطباعات والأفكار والتوجّهات لدى عامة الناس، وهو محرّك أساسي للثقافات الهجينة

قال سقراط في إحدى مرافعاته عن مرتكزات الاقتناع بثلاث مراحل، معالجة الحقائق، أي الشواهد الملموسة والمحسوسة، وسمّاها العقلانية، والعاطفة أي تحريك مشاعر الجماهير واستمالتهم، وسمّى الثالثة بالمصداقية التي تدور حول شخصية الخطيب ومصداقيته وتوجهاته وقدراته، في ما يخصّ الحس الجماعي. في حين ينطلق مروّجو المسلسلين من مهارة تدليس اعتناق حرية الرأي، وهي طريقة للتضليل والخداع، وإيجاد مسافة بين الرأي وصاحبه، وتالياً يمنع الناس من الانتماء إلى معسكر فكري رصين. وربما سيصفون التفكير في نقد عرض المسلسلات التاريخية المؤدّية إلى تشنجيات واضطرابات دينية ومجتمعية، أو إذا اهتم الباحثون والنقاد بالملاءمة الروحية لمقترحاتهم وآرائهم مع مستقبل البلاد، فسيصفون ذلك تفكيرا ناقصا وربما تافهاً.

يلعب التلفزيون دوراً هاماً وريادياً في إشاعة الانطباعات والأفكار والتوجّهات لدى عامة الناس، وهو محرّك أساسي للثقافات الهجينة، فلنتأمل دور الأفلام المترجمة والمدبلجة، التركية والمكسيكية، إلى اللغة العربية، وكيف استقرّت ثقافة الدول المصدّرة أفلامها في منازلنا، خصوصا التركية منها، لقُربها الجغرافي وتداخلها السياسي والديني والثقافي والاقتصادي مع الشعوب العربية والكردية، الإسلامية والمسيحية. وفي الأثناء، فقد الناس تدريجياً اهتمامهم بالشأن العام واختصرت همومهم على فردياتهم الصغيرة. وهو ما يقودنا إلى "نظام التفاهة" الذي اجتاح الحواضن الشعبية عبر طرق ومفاعيل سلطوية متعدّدة، يحرّض ذلك النظام على أن ينحدر الناس إلى الدرك الاسفل، ويحدث الانحدار بشكل مخاتل وبسرعة. لنعيش في ظروف يزداد فيه المعقد تعقيداً، مقابل تطوّر المعارف وتداخلها في شتى مجالات الحياة من حولنا، إلى درجة أن أفلام السينما والتلفزيون والمسرحيات الجادّة والهادفة أصبحت عرضة للاشتباه بالسطحية وغياب أصالة الفكر، في حين أن العروض المستوردة والمؤثرة على المزاج العام سلباً، أو التي ستتسبّب بخطورة تأجيج المشاعر، تصنف ضمن حملات التوعية.

عاصفة كبيرة من النقد والرفض لمسلسل "معاوية" وفيلم "أبو لؤلؤة" سبقت عرضهما. وربما لبعض الأطراف مصلحة في ذلك، لكن الخوف من المجهول، أو من نقل التاريخ كما حصل، ومن أن يُحدثا مزيد من الشرخ، هو المحرّك لآخرين، خصوصا أننا لا نحتاج لاستحضار مثل تلك التواريخ والسرديات، إنما في آلياتٍ جديدةٍ تنتشل مجتمعاتنا من قاعها المدوّي.