من طاعون نظام الأسد إلى حمّى الإسلاموفوبيا
سوريون يحتفلون وهم يتجهون لأداء صلاة الجمعة في الجامع الأموي في دمشق (10/1/2025 الأناضول)
ما إن استلمت هيئة تحرير الشام إدارة الحكومة المؤقتة في سورية حتى تبادر إلى أذهان كثيرين أنّ غولاً مفزعاً بات يتسيّد السلطة، سيبتلع الجميع، وتتصل سيولة الخوف السوري بمسوّغات عدّة، ليس بداية بخلافات الفصائل المنضوية تحت لواء الهيئة، وجنوح المتشدّدة منها إلى انتهاكاتٍ سافرةٍ بحقّ الأقليات، مروراً بانفراد الحكومة بالتعيينات بلونٍ واحد، ومبرّرها أنها من ضرورات المرحلة، وليس أخيراً تصريح القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع بأنه لن يجري تنظيم أي انتخابات قبل أربع سنوات، بينما لم يخاطب السوريين حتى اللحظة... إلخ.
بطبيعة الحال، تُنتج الإسلاموفوبيا وهماً بصرياً واسع الطيف، بينما تتطلب المشهديات المتخمة بتحويل الشكوك والإشاعات إلى وقائع قطعية تحليلاً تفصيلياً في ظلّ تعدّد الأجندات والاستراتيجيات والتفسيرات، والذي سيجعل الوصول إلى توافقٍ وطني أو أقلّه إرساء قواعد السلم الأهلي أمراً بالغ الصعوبة على المدى المنظور. يزيد المشهد حساسية أنّ رهاب السوريين لم يأتِ من عدم، إذ من المعلوم أنّ عموم الحركات الإسلامية، حتى أكثرها اعتدالاً وبراغماتية، تنكفئ إلى خطابٍ ماضوي متطرّف يدعو إلى "أسلمة" الدولة والمجتمع معاً، عندما تجد الفرصة مواتية، لينخفض بالضرورة إيقاع صوت الشارع وفاعليته باعتباره القوة الموضوعية الموازية لنفوذها وقوتها. وفي الحقيقة، تكتسب هذه الرؤية بُعداً واقعياً عند تناول المظاهرات التي اندلعت في شمال سورية ضد حكم هيئة تحرير الشام، ووصلت إلى قلبَ إدلب قبل الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، كجولةٍ أولى من الانفجار الشعبي ضد مشروع الإسلاميين في السلطة، لاعتباراتٍ تتعلق بسوء الأوضاع المعيشية واعتقال المعارضين وقمع النساء ونبذ المختلفين في العقيدة... إلخ.
تعكس كلّ المشهديات العجائبية الحالية تصوّر السوريين المسبق عن الحاكمين الجدد الذين كانوا مضطهدين ومقصيين من السلطة، وما إن تولّوا الحكم حتى شحنوه بأقاربهم وأبناء أيديولوجيتهم، بينما يسعى المتشدّدون منهم إلى استعادة ماضي الوعظ والتذكير بأهوال القيامة، لترتفع الأصوات من قبيل "تطبيق الشريعة" و"الخلافة الراشدة"، بالتالي، إذا سُدّت المنافذ في وجهها جنحت حكماً إلى العنف المطلق لردع طوفان التحديث والعصرنة، ما سيفرز تياراً تكفيرياً يتبنّى مفهوم العدالة "الانتقامية"، له مبادئه وآليات اشتغاله، يُعيد الاعتبار لمركزية الدين ونصوص الطاعة العمياء، ويفاقم الديناميكيات القوية المؤسّسة لفوبيا الخوف من سطوة الإسلاميين، ويعزّز اختلالات تعاملهم مع السوريين، لتغدو العناوين التي رفعها التيار المدني من أجل بناء دولة ديمقراطية بعد سقوط نظام الأسد مجرّد ترفٍ فائض لا قيمة له.
رهاب السوريين لم يأتِ من عدم، إذ من المعلوم أنّ عموم الحركات الإسلامية، حتى أكثرها اعتدالاً وبراغماتية، تنكفئ إلى خطابٍ ماضوي متطرّف يدعو إلى "أسلمة" الدولة والمجتمع معاً
هذا للقول إنّ فرض الإسلام مصدراً رئيسياً للهوية السياسية في سورية التي لا تحتمل مزيداً من الارتجال الشخصي أو الاجتهاد العبثي، سيفتح باب المماحكة المجانية بين من يتبنّى مشروع دولة "الخلافة الإسلامية" ومن يضادها، ليتبيّن، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ ضريبة المشاركة السياسية تحت سقف الحكومة الجديدة باهظة الثمن، بينما ينحسر طاعون مملكة الأسد التي تتفكّك ذاتياً رغم شراستها. الطرح الواجب تبنّيه هنا: كيف ستتعامل هيئة تحرير الشام مع سؤال الدولة وكيفية بنائها وإدارتها، وخاصة أنّ أبو محمد الجولاني، وفي لقاء شهير على فضائية الجزيرة عام 2015، صرّح: "نحن لا يهمنا ما يقوله الغرب عنّا، لكن يهمنا أن نطبق شريعة الله عزّ وجل". وعليه، هل سيتبنّى، في نهاية المطاف مشاريع الإسلام السياسي على حساب تنحية خيار الديمقراطية والانتخابات نهائياً؟
لا يمكن، والحال هكذا، وضع جميع السيناريوهات المحتملة للحكم في سلة واحدة، فلسورية خصوصيتها التاريخية وسياقاتها الفريدة، وستكون في مواجهة محتدمة مع الإسلاميين الذين لا يقدّمون مبادرات ديمقراطية ذاتية إلا تكيفاً مع الضغوط الخارجية المقترنة بالإغراءات والغنائم المُجزية، فيعيدون تدوير المطالب الملحّة بما يناسب تطلعاتهم، ويبدعون في الانتقاء العشوائي لكباش فداء تُلقى عليهم تبعات ما لا ينسجم مع مسبّبات المآلات المأزومة.
بعد نهاية شهر العسل الثوري، ووسط التشكّك السلبي بالنيات المضمرة للحكومة المؤقتة، ستواجه الأخيرة تحدّيات كثيرة، أبرزها نحت مقاربتها الإسلامية الخاصة بالتوازي مع ضرورة تحقيق قواعد الحكم الدستوري العادل، وخاصة أنّ فصائل كثيرة منضوية تحت لواء هيئة تحرير الشام هي جماعات راديكالية عنفية، تسرح وتمرح في سورية التي شكَّلت مختبراً استثنائياً للإسلاميين في الشرق الأوسط. فصائل تراوح بين جماعات فوضوية جهادية وبين أخرى منظمة تملك أيديولوجيا صلبة، تسعى دائماً للعمل ضمن الهوامش المتاحة لها، فبعد تصريحات مسؤولِيّ الحكومة المستفزة بحقّ المرأة، ها هي النشاطات الدعوية تنتشر في المدن السورية، منها تدعو إلى الحجاب والاحتشام، وأيضاً فصل النساء عن الرجال في وسائل النقل والمصاعد، والصلاة في ساحات الجامعات بشكل استعراضي غير مفهوم، ومهاجمة فعاليات الموسيقى في المقاهي، ولن يكون آخرها بالطبع طرح الورقة السياسية لـ"حزب التحرير ولاية سورية" لمرحلة ما بعد سقوط الأسد، والتي تدعو إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية بشكل صريح وواضح... إلخ.
المستقبل السوري في ظلّ المعطى الإسلامي الحالي غير واضح الملامح، وسيبقى مصدرَ قلقٍ عارمٍ يقضّ مضاجع السوريين
السؤال الثاني الواجب طرحه: هل تندرج هذه التحرّكات ضمن سياسة "جسّ النبض العام" أم هي تخبط طبيعي وسط انفلات أمني سافر أمام أعين العالم المنشغل بقراءة التوازنات السياسية وصياغتها في ظل حكم الإسلاميين، وانعكاس ذلك على مصالحه؟
إذا أخدنا الواقع السوري في مقارنة موضوعية مع ما جرى في تونس ومصر، حيث حاولت حركتا النهضة والإخوان المسلمين على التوالي الاستئثار بالحكم، فإن تجربتهما المتقدّمة في احتكار الميدان السياسي، وإقصاء كلّ ما عداهم كانت مخيّبة جداً لآمال الإسلاميين، فما بالك ببلد يتفرّد بالتنوع الديني والإثني الهائل، لذا من المؤكد أنّ مشروع "الخلافة الإسلامية المتشدّدة" لا يملك فرصة في سورية، وهي تعلن بداية حقبة جديدة بعدما خلعت أخيراً جلد الاستبداد، لكن لم يتضح بعد أيّ ثوب ستلبس وسط تساؤلات ملتهبة إن كان الإسلام السياسي سيستعيد حضوره "الناعم" بديلاً حتمياً للنظام البائد، أم أنه سيتآكل تلقائياً بسبب الهوّة السحيقة الكامنة بين ذهنية الإسلاميين التي تغذي كلّ ما هو قمعي وهوياتي وواقع الحوكمة على الأرض، والتي ساهمت في انحسار المدّ الإسلامي المتطرف في المنطقة العربية تدريجياً؟
نافل القول.. المستقبل السوري في ظلّ المعطى الإسلامي الحالي غير واضح الملامح، وسيبقى مصدرَ قلقٍ عارمٍ يقضّ مضاجع السوريين، بكل أطيافهم وطوائفهم. أما التنافس المحموم بين فصائل هيئة تحرير الشام، والتي قد تؤدّي إلى التقاتل الدموي بدل تقديم بديلٍ إسلامي واعد للبلاد فيخلق نقاطاً عمياء في الأفق، تعزّز ضبابيتها التعميمات المجحفة من قبيل (من يحرّر.. يقرّر)، كتأكيدات تستند إلى حتميةٍ براغماتيةٍ تتعلق بهوى الأكثرية، باعتبارها صفوة النشوة الإسلامية بعد عقود عصيبة من المظلومية السنيّة.