من سيفتقد أنجيلا ميركل؟

من سيفتقد أنجيلا ميركل؟

12 ديسمبر 2021
+ الخط -

السيدة التي قضت 16 عاماً في الحكم، من سيفتقدها؟ بحسب العرف الديمقراطي السياسي الغربي، لا يجب أن يفتقدها أحد، لأنّه يقتضي بأن يغادر الساسة مقاعدهم، ويذهبوا إلى بيوتهم بسياراتهم الخاصة، مصطحبين معهم أغراضهم الشخصية فقط، وتتابع بعدهم عجلة السياسة الدوران. تعتمد ألمانيا تقاليد تكريمية بشكل رسمي، تقدّم فيها احتفالاً رمزياً عندما يغادر المستشار منصبه، ويُترك له اختيار ثلاث أغنياتٍ تُعزف في مراسيم وداعه منصبه. لم تكن ميركل متكلفة ولا مدّعية للوطنية، فاختارت أغنياتٍ عبّرت فيها عما تؤمن به وما تختزنه من ثقافةٍ حصّلتها عبر سنواتها السبع والستين الماضية. ولم تكن خجولةً عندما اختارت أغنية تعود إلى الحقبة التي عاشت فيها في ألمانيا الشرقية، المرحلة الأولى من حياتها. يقول مطلع الأغنية التي راجت في أواسط السبعينيات "لقد نسيت الفيلم الملون" وتتضمّن الأغنية انتقاداً مبطّناً لسلطات الثقافة المتزمّتة في ألمانيا الشرقية، حيث كان التلفزيون الألماني وصالات السينما التي يرعاها الحزب الشيوعي تعرض أفلاماً باللونين الأسود والأبيض فقط. وفي لفتة تأريخية جميلة، تشير ميركل إلى أنه كانت لدى الشعب الألماني طريقته في الاعتراض، وأبرزت ذلك في حفل وداعها السلطة التي تربعت فوقها 16 عاماً.
حصلت ألمانيا على فرصة في عام 1990 عندما سمح انهيار الاتحاد السوفييتي بإعادة توحيدها. في ذلك العام، وفي ليلة من ليالي شهر أكتوبر/ تشرين الأول، أعلن الرئيس الألماني، ريتشارد فون، من أمام مبنى الرايخستاغ وأمام مليون شخص، عن وحدة ألمانيا في سلام، وعاصمتها برلين، وكان الجدار الذي يفصل شطريها والموجود على بعد عدة أمتار خلف البرلمان قد سقط قبل فترة. استفادت ألمانيا من الفرصة المتاحة، وتحوّلت إلى أقوى اقتصاد في أوروبا الغربية. وقد تكون حصلت على فرصة أخرى بوجود ميركل في المنصب، بعدما كسرت احتكاراً ذكورياً لهذا المنصب منذ وجوده. تحوّلت ألمانيا إلى أكبر دولة دائنة في أوروبا، بفضل مجتمع متوازن تسود فيه الطبقة الوسطى، خزّان التطور والتنمية، حيث ثمّة مستوى معقول من التضامن الاجتماعي. وتتصدّر أحزاب الوسط صناديق الانتخابات، وأهمها حزب ميركل نفسه. نجحت ميركل في إبقاء ألمانيا بعيدةً عن الأزمات، وأظهرت وجهاً مشرقاً بموقفها الإنساني الحقيقي من قضية اللاجئين الذي تململت منه بقية دول أوروبا، واستطاعت استيعابهم من دون أن يظهر عليها أي وهن اقتصادي أو اجتماعي يُذكر، فبقيت أصوات أحزاب اليمين المتطرّف محدودة.
ولدت ميركل في ألمانيا الغربية في هامبورغ لرجل دين إنجيلي. وتلبية لواجباته الروحية، ارتحل الكاهن بعائلته إلى براندنبرغ في ألمانيا الشرقية، وهي بلدة مفروشة بالحصى، ومسيّجة بأشجار الصنوبر. قالت ميركل بعد ذلك إنّها لم تشعر أبداً بأنّها تنتمي إلى ألمانيا الشرقية، فهي، على الرغم من حياتها القاتمة هناك، امتلكت روحاً مشمسةً استطاعت بها التغلب على الحياة الجماعية في القرية ذات الغابات الصنوبرية. كانت والدتها معلمة للغة الإنكليزية، وانتقل شغف التعليم إلى البنت الصغيرة، لكنّها لم تمارسه أبداً، وحصلت بدلاً منه على شهادة في فيزياء الكم من جامعة "لايبزغ". تزوجت فترة قصيرة من فيزيائي زميل لها، أخذت عنه اسم ميركل. فازت في الانتخابات الاتحادية عام 1990، وكانت قريبةً من المستشار هلموت كول، ووصولها إلى قمة الحزب جاء تحصيلاً لشخصيتها المتميزة والمثابرة. وكان التحدّي الأكبر لها في إنقاص وزنها بعد كسر حوضها في رحلة تزلّج، ونجحت فيه، حين فقدت عدداً من الكيلوغرامات، ما ساعد في سرعة شفائها.
تغادر ميركل مبنى الرايخستاغ وعلى شفتيها ابتسامة رضا، وفي أذنيها صدى أغنية عتيقة، تعود إلى زمن الشباب، تتذمّر فيها المغنية من عدم وجود أفلام ملونة، وقد حوّلت جهود ميركل حياة كثيرين إلى شريط زاهٍ.