من حرّض "إيريني" على قرصنة السفينة التركية؟

من حرّض "إيريني" على قرصنة السفينة التركية؟

06 ديسمبر 2020
+ الخط -

تقول المفوضية الأوروبية أن اعتراض سفينة شحن تركية كانت متجهة إلى ميناء مصراتة في ليبيا، وتفتيش جنود ألمان لها، قبل أزيد من أسبوعين، في عرض البحر المتوسط، جاء تطابقا مع مهام عملية إيريني الأوروبية التي تتحرك بناء على قرارات أممية لحظر إدخال السلاح إلى ليبيا، وبعد اتصالات مع أنقرة، لم تسفر عن نتيجة، وأن المهمة أنجزت من دون العثور على أسلحة. وعلى الفور، أعلنت أنقرة أنها سترد بالمثل، وعلى أكثر من مستوى، وفي أكثر من اتجاه سياسي قانوني وميداني، لأن اقتحام سفينتها على هذا النحو عمل غير قانوني، حسب معايير قانون البحار والقانون الدولي، وهو عمل قرصنة نفذه بعضهم باسم الاتحاد الأوروبي من دون أي تفويض. .. وكان العمل استعراضيا، هدف إلى توجيه رسائل مباشرة إلى أنقرة قبل أن يكون بهدف تنفيذ مهمة محددة. تم احتجاز طاقم السفينة 16 ساعة، وعوملوا كالمجرمين والقراصنة في عرض البحر باستخدام القوة ضدهم، ومن دون الحصول على إذن الدولة التي ترفع السفينة علمها، أو موافقة قبطانها، ومن دون علم الجهة التي تقصدها السفينة، وهي الحكومة الشرعية في ليبيا.

استدعت الخارجية التركية سفراء الاتحاد الأوروبي وألمانيا وإيطاليا، وقدّمت مذكرات احتجاج عاجلة، في ردة فعل أولى. ولاحقا، قرّرت أنقرة إرسال سفنها الحربية لحماية سفنها التجارية في عرض المتوسط، بعد فاجعة اقتحام سفينتها التجارية المحمّلة بالمساعدات إلى الشعب الليبي، وستكون الخطوة المقبلة طرد سفراء الدول التي تُقدم على مغامرةٍ من هذا النوع، كما يتردد. وتوحي تصريحات القيادات السياسية التركية، وبيان مجلس الأمن القومي التركي، وما قاله وزير العدل، عبد الحميد غل، أن ملف الأزمة لن يغلق بمثل هذه البساطة والسرعة، فالعملية كما وصفها رئيس البرلمان التركي وأستاذ القانون الدستوري، مصطفى شنطوب، "قرصنة ولصوصية وهمجية حديثة". وقد يكون التحرك القضائي التركي باتجاه فتح دعوى جزائية ضد الأطراف المشاركة في العملية، أفرادا وهيئات، من أولويات أنقرة، إذا لم تحصل على اعتذار رسمي مصحوب باستعدادات لمعاقبة المتسببين بالأزمة.

تقوم أوروبا بعملية غير قانونية ضد حليف أساسي في حلف شمال الأطلسي (الناتو). المسألة إذاً أبعد من أن تكون بهدف تنفيذ قرارات "إيريني" لحماية ليبيا من التدخلات الخارجية، وتأجيج النزاع. لذلك رأينا وسائل الإعلام التركية تلتقي عند عنوان واحد في وصف ما جرى أنه عمل استفزازي من "اتحاد القراصنة الأوروبيين".

بتفتيش السفينة التركية، تقوم أوروبا بعملية غير قانونية ضد حليف أساسي في حلف شمال الأطلسي

لماذا هي قرصنة؟ لأنه لا يمكن مقارنة ما جرى سوى بحادثة السليمانية التي نفذتها القوات الأميركية ضد موقع للجنود الأتراك في يوليو/ تموز عام 2003 في العراق، والمعاملة السيئة التي تعرّضوا لها، ما تسبب بأزمةٍ في العلاقات التركية الأميركية استمرت أشهر، وانتهت باعتذار أميركي رسمي على ما جرى. أو بحادثة اعتداء البحرية الإسرائيلية على "أسطول الحرية" قبل عشر سنوات، والذي فجر العلاقات التركية الإسرائيلية سنوات، انتهت بدفع التعويضات والاعتذار الإسرائيلي الرسمي.

تحمي "إيريني" البحر من الخروق، فمن يحمي البر والجو الليبي لمنع إدخال السلاح إلى هناك؟ أليست هي عملية مبتورة لا قيمة لها على مستوى المعايير القانونية والسياسية التي تبنّاها مجلس الأمن الدولي في الموضوع الليبي؟ مع من نسقت "إيريني" قبل الإقدام على هذا العمل الذي يتعارض مع كل معايير (وروح) الصداقة والشراكة التركية الأوروبية؟

تشتدّ، يوما بعد آخر، حماوة المواجهات بين تركيا وعواصم أوروبية وإقليمية عديدة، نتيجة تباعد الخيارات والمواقف في التعامل مع ملفات ساخنة. التوتر الأبرز هو بين أنقرة وباريس التي تريد لعب ورقة الاتحاد الأوروبي، وتحريض الإدارة الأميركية الجديدة، تحت ذريعة أن الرئيس أردوغان وحزبه في السلطة يهدّدان، بعنادهما وتحدّيهما الجميع، كل التوازنات السياسية والأمنية والاقتصادية القائمة في أكثر من بقعة جغرافية، بينها الشرق الأوسط وشرق المتوسط والقوقاز وشمال أفريقيا، وأنه حان وقت إيقاف تركيا عند حدّها. غير أن تقديم بعض الدول مصالحها على حساب مصالح المجموعة هو الامتحان الأخطر والأهم اليوم، فرنسا واليونان بالدرجة الأولى، فقد يتحوّل الاتحاد الأوروبي إلى عملاق من ثلج، إذا لم يتمكّن من حماية الشعارات والأسس التي أعلنها ودافع عنها عند التأسيس قبل 70 عاما. 

تريد فرنسا أن تفرض نفسها إقليميا، بعد أكثر من انتكاسة وضربة تلقتها في ملفات كثيرة حساسة تعنيها مباشرة

تريد فرنسا أن تفرض نفسها إقليميا، بعد أكثر من انتكاسة وضربة تلقتها في ملفات كثيرة حساسة تعنيها مباشرة في سورية وليبيا وشرق المتوسط وناغورني كاراباخ، والمعني هنا هو أردوغان وسياساته. ويريد بعضهم في أوروبا الدفاع عن مصالح الليبيين، وحمايتهم من خطر الاقتتال والتقسيم والشرذمة، وإبعاد الطامعين في خيرات ليبيا ومقدّراتها. آخر من يهمه ذلك فرنسا، الدولة الاستعمارية السابقة في شمال أفريقيا، وتبحث عن بدائل تبقيها في المنطقة، بمحاولة ربط خطوط الطاقة والتموضع الاستراتيجي في سواحل الشمال، لحماية نفوذها في العمق الأفريقي.

لماذا فرنسا؟ بسبب مشكلتها مع تركيا في يونيو/ حزيران المنصرم، ومحاولة افتعال أزمة مشابهة داخل حلف الأطلسي، وبسبب خيبة أملها في الحصول على ما تريد في ملفات إقليمية عديدة، نتيجة الاعتراض والرفض وقطع الطريق التركي في سورية والقوقاز والعراق وليبيا. .. ما الذي كان سيحدث، لو أن القوة التي اقتحمت سفينة الشحن التركية فرنسية، وليست ألمانية، وماذا لو عثرت هذه القوات على السلاح الذي قد تضعه هي، بعدما حبست طاقم السفينة، وسيطرت على الموقف عليها؟ يزداد وضع فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي صعوبة، والدليل تحدّيها قرارات المجموعة الأوروبية، وفريق عمل "مينسك"، والقرارات الأممية من خلال قرار مجلس الشيوخ الفرنسي التوصية بقبول إقليم كاراباخ دولة مستقلة معترفا بها. أين ردة الفعل الأوروبية والغربية على هذه الخطوة؟

الهدف تضييق الخناق على تركيا، لدفعها نحو مغادرة حلف الأطلسي، بعد استحالة قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي

جاء توقيت تحريك الجنود الألمان بعد ساعات على الرسائل الانفتاحية التي وجهها الرئيس التركي إلى المجموعة الأوروبية، وقبل أسبوعين من اجتماع القمة الأوروبية، لبحث موضوع العقوبات على تركيا. ولكن ما سيُناقش أوروبيا على مستوى دول "إيريني" هو معرفة من الذي ورّط الجميع في هذه اللعبة. تقبل ألمانيا مسؤوليتها في صعود جنودها إلى السفينة، من دون الموافقة التركية، عندما تعلن أنها أمرت بسحب القوات المقتحمة بعد وصول الرفض التركي، ولكن الأسئلة التي تنتظر أنقرة إجابات عنها كثيرة: من أعطى الأوامر باعتراض السفينة واقتحامها؟ هل هو قرار قائد القوات الميدانية في العمليات، الضابط اليوناني تيودوروس ميكروبولوس، أم هو قائد قوات "إيريني"، الإيطالي فابيو أغوستيني؟ من الذي زوّد "إيريني" بمعلومات زائفة عن وجود أسلحة على متن الباخرة التركية؟ لماذا الإصرار على الصعود إلى السفينة، على الرغم من الرفض التركي وإبلاغ قيادة "إيريني" بالحمولة ووجهة سفر الباخرة؟ هل هناك أي دور لمجموعات الكيان الموازي، المحسوبة على قائد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، فتح الله غولن، بتسريب معلوماتٍ مختلقة، بتوصية من أجهزة عربية أو غربية لصبّ الزيت فوق نار العلاقات التركية الأوروبية الحامية أصلا؟ ألم يكن بمقدور القوات الأوروبية محاصرة السفينة، وقطع الطريق على مسارها، ريثما يتم التفاهم حول صيغة معينة للصعود إليها وتفتيشها؟ لماذا هذا الإصرار على التحرّك بهذه الطريقة الاستعراضية الاستفزازية؟

تقول المفوضية الأوروبية و"إيريني" إنهما فعلا ذلك، وسيفعلانه مرة أخرى. قرارات مجلس الأمن الدولي تلزم الجميع، ومضمونها شفّاف وعادل ومتوازن. ابتكرت أوروبا في ليبيا لعبة "إيريني" لتتحرّك بشكل مبتور، كما قال رئيس الوزراء الليبي، فائز السراج، تحت ذريعة الدفاع عن ليبيا الموحدة، وهي لم تسأل من الذي سيراقب الأجواء واليابسة لمنع دخول السلاح إلى ليبيا؟ ربما لأن عواصم أوروبية تساهم في إدخال السلاح ونقله إلى هناك، ولا تريد سد هذا المعبر.

العلاقات التركية الغربية بأكملها في أزمة، والرئيس الأميركي المرتقب، بايدن، سيكون بيضة القبان

قد يكون غرض العملية رفع مستوى التوتر التركي الأوروبي، بعد رسائل أردوغان الانفتاحية، وزيارة المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، بروكسل، وتسهيل صدور قرارات بالعقوبات ضد تركيا في اجتماع القمة الأوروبية المرتقب بعد أقل من أسبوعين. ولكن هناك حقيقة أخرى لا يجوز تجاهلها، أن العملية الأوروبية فتحت "علبة باندورا" في أعالي البحار، وقادت إلى قلب كل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في هذا الخصوص، و"إيريني" هي من يتحمّل مسؤولية ذلك.

بين الخطوات المرتقبة في مشروع إعادة ترتيب بنية (وهيكلية) حلف شمال الأطلسي الذي تتولى ألمانيا الإشراف على مسوّدته، اقتراح استضافة دول الاتحاد الأوروبي كلها، بوصفهم أعضاء مشاركين في الحلف. الهدف هو إجلاس قبرص اليونانية أمام طاولة مستديرة واحدة وجها لوجه مع تركيا. وهذا امتحان جديد للعلاقات التركية الأطلسية والتركية الأوروبية، خصوصا إذا ما لجأت أنقرة إلى حق النقض. الهدف هذه المرة تضييق الخناق على تركيا، لدفعها نحو مغادرة الحلف، بعد استحالة قبولها عضوا في الاتحاد الأوروبي. 

العلاقات التركية الغربية بأكملها في أزمة، والرئيس الأميركي المرتقب، جو بايدن، سيكون بيضة القبان.

4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.