من الحرب ما أحيا

من الحرب ما أحيا

18 مارس 2022

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -

أَحيت الحرب الأوكرانية الضّمير العالمي النّائم في العسل؛ فالأموات واللاجئون والمدن المحطّمة وصفّارات الإنذار، وانتهاء حياة الملايين الذين أُخرجوا من بيوتهم الآمنة التي كانت تحتوي أحلامهم البسيطة، هذا كله لم يعد محصوراً في بلاد الآخرين. بل صار للضّحايا عيون خضر وشَعر أشقر. لهذا، قيل إنّها الحرب العالمية الثالثة، فالحرب لا تقع عندهم أبداً، إلّا إذا كانت ستجرُّ العالم خلفها إلى الهاوية.

بينما لا تعدو حرب أوكرانيا أن تكون مجرّد تذكير للعالم بحقيقته قبل كورونا، حتى لا ينسى نفسه. وإذا استحضرنا أسلوب إدارة الأزمات بصناعةٍ أخرى، تتبدّد المخاوف ويتناقص الهلع بشأن حرب عالمية ثالثة. وندرك أن ما يحدث أمرٌ يحاول العالم عبره إعادة نفسه إلى سكّته السّابقة. وكل حليمة تَجدُّ في إعادة عاداتها القديمة. ولم لا اكتساب بعض المساحة الجديدة، في ظل التزاحم والارتباك الذي حدث في كورونا.

تتّصف الأزمة بأنها حالة طارئة، أو حدث يؤدي إلى الإخلال بمنظومةٍ ما، ويضعف الجانب التنافسي لها، ما يتطلب سرعة المواجهة، والبحث عن حلول عاجلة، وهو ما تتّصف به كورونا مع حجم هائل في شدة الأثر واتساع دائرة تأثيره. وقديماً قيل "داوِها بالتي هي الداء"، فتصبح الأزمة حلاً ضمن الحلول الكبرى للأزمات. ولابد أن تكون الأزمة المصنوعة بحجم الأزمة التي يُراد تجاوزها؛ فلحل أزمة كورونا التي لم يسبق لها مثيل في عالم ما بعد الحرب الباردة، لابد من أزمةٍ لها بعدٌ عالمي، وتُحدِث هلعاً عالمياً أيضاً. إذ لم يعد من المفيد نكء الجرح الطائفي أو الديمقراطي لدولة ضعيفة، لتغذية نظام الأزمات. بل يجب أن تكون الجنازة كبيرة، حتى لو كان الميّت فأراً، فبعد أزمة بحجم كورونا، لابد أن يستعيد العالم الذي استكان أكثر مما يجب إلى السلم النّزعة الوحشية، لتغتني شركات الأسلحة وسماسرة الموت، فالدول الفقيرة لم تعد سوقاً مهمة بعد مصيبة كورونا التي جعلت خزائنها خاويةً على عروشها.

رغم شراسة الحرب الإعلامية التي هي جزء أساسي من تكتيكات الحرب المعاصرة، وتهديداتها باتساع نطاق الحرب، لن تتجاوز المواجهات النطاق الجغرافي "غالباً" الذي تحدث فيه الآن. فالحروب استغلالٌ وتحريضٌ ودوسٌ للأضعف. وكانت أوكرانيا الأرنب الذي خرج من جحره مبكّراً، هو الذي كان دائماً الجزء الأضعف داخل المحيط الجغرافي الروسي المركزي، ففي إحياء الحروب تذكير بالماضي القريب لحربٍ، الناجون من نيرها كانوا قلّة. وفي إحياء الحروب أيضاً تذكير بالانتصار الشامل، ولعل ما أنجزته هوليوود عن الحرب العالمية الثانية يفوق جميع ما أنتجته باقي الدول المشاركة، فكل سنةٍ يُنجز فيلم من بين صفوة الأفلام عن روعة الانتصار الغربي، وبشاعة جرائم النازية التي تفوّقت على باقي الجرائم. على الرغم أن الحرب جلها جرائم، وما ارتكبه الغرب نفسه في المستعمرات لا يقل بشاعةً عن جرائم هتلر أو يزيد.

يحول الإعلام الحرب إلى معركة افتراضية، ومن يخاف يخسر. كل شيءٍ جائز في هذه الحرب الأسخن من المعارك الجوية، فهي تقتل جوهر الإنسان، وإن لم تصفِّه جسدياً، ولم تهرق دماءه. وعبره تخوض أميركا حرباً بالوكالة من بعيد، ولعلها تنتظر أن تغرق أوروبا حتى تتدخل لصالحها، بعد أن تكون قد ربحت المليارات في حفلة التّسليح. في كل الحالات، أميركا هي المستفيد الأكبر في كل حرب. والإعلام هو المصدر الأساس لخرافة استحالة حدوث حرب إقليمية محصورة الآثار في الغرب، تشبه خرافة استحالة حدوث وباء يُخضع العالم مثل كورونا ولا يقتله. العالم كان موجوداً قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل التلقيحات والطب الحديث، وكان له أيضاً كبرياؤه وخرافاته. مع ذلك، نجا من كل شيء.

لا تحدُث النّهايات إلّا لتكون هناك بدايات، والعكس صحيح. لتنتهي كورونا يجب أن تبدأ أزمة أخرى تشغل العالم، وتبقي المال متحرّكاً كنبع ماء متجدّد. فرغم ظنّنا جميعاً أن الطبيعة والموارد الطبيعية سرّ بقاء الإنسان، فالحقيقة أن المال هو الأوكسجين الجديد للكرة الأرضية، وهو سر نجاتها يوماً ما من الدّمار الشامل، كما أنه سبب دمارها.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج