من أين للبنانيين كلّ هذه الأموال؟

من أين للبنانيين كلّ هذه الأموال؟

20 يونيو 2021
+ الخط -

في نقده أحد المسؤولين في الإدارة العامة، يقول الشاعر اللبناني، موسى الزين شرارة (1902- 1986):

يا مديرَ الاقتصادِ الوطني/ دُلّني من أينَ أصبحتَ غني؟

لم تهاجرْ لم تتاجرْ لم ترِثْ/ عن أبيكَ الفذِّ غيرَ الرَّسنِ

البيتان درسٌ في الاقتصاد وحدهما، إذ يحدّدان القطاعات المعروفة لتكوين الثروة في لبنان، والناجح بينها والفاشل، كما الظاهر والمستتر. "مدير الاقتصاد" بات غنياً، ولا يُعرف عنه أنّه نشط في التجارة، فهي وشقيقتها الخدمات أساس الاقتصاد اللبناني. كذلك، لم يهاجر، ومعروف أنّ "أموال المغتربين المرسلة إلى ذويهم" لطالما احتلت صفحةً في كتاب الجغرافيا المدرسي، للدلالة على احتلالها موقعاً مهماً في الميزان التجاري أيضاً. ولم يرث المدير عن أبيه مالاً أو ممتلكاتٍ، بل الرسن فقط، دلالة على العمل في الزراعة الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع، في بلدٍ قرّر منذ البدء، محاربة القطاعات المنتجة والارتماء في حضن الريعية، حتى تدهورت أحواله إلى مستوى الأزمة الحالية.

ذلك ما هو ظاهر، لكنّ الشاعر يؤكّد، في المقابل، أنّ المدير اغتنى، فما المسكوت عنه في البيتين؟ أو ما تجاهل العارف، الذي أورده؟ هو بالتأكيد الفساد، والتكسّب من الوظيفة العامة، بدرجاتها المختلفة؛ من الرئيس والقائد والوزير والنائب والمدير العام إلى الفئات المختلفة، بل حتى الوظيفة في القطاع الخاص، لكن المرتبطة بدوائر الدولة، سيما المالية.

كان ذلك كله من تراث الفساد، فقد تطور ذلك بتطوّر المحاصصة الطائفية، ومحاولة نقل بنية المقاطعجية إلى دولةٍ لم يعرف لبنان بعد مائة عام على إعلانها غير هيكلها، الذي يسهّل على الفاسدين فسادهم، حتى بات كلّ فسادٍ مجرد كسب قانوني لا غبار عليه، مهما حاول العارفون بالتشريع والمحاسبة التمحيص في مخالفات فلان وعلاّن، فكما تقول إحدى شخصيات مسرحية "شي فاشل": "واحد عامل هيك عملة، بدّو يظبّط فواتيرها"، والفواتير في لبنان كثيرة.

هو فساد لا يُخترق، فهو بالتكافل والتضامن بين جميع المسؤولين الكبار أولاً على المستوى الأفقي، وبرمي الفتات إلى الجماهير الغفيرة على المستوى العمودي، فإن كنتَ موالياً للزعيم لن تجوع، وإن جعتَ وكنتَ من غير الموالين، والِهِ، وستشبع. لكن، لا تطمع بتكوين ثروة، فـ"مدير الاقتصاد الوطني" مجرّد واجهة مثل كثيرين، فإذا اختلس دولاراً ذهبت تسعة دولارات أخرى إلى من يقف خلف هذه الواجهة من أباطرة فساد يحكمون البلاد والعباد، ويحاربون هم أنفسهم الفساد في اقتراحات القوانين ومشاريعها ومبادراتها المزايدة على القوانين من خارجها.

فساد لا يُخترق، فهو بالتكافل والتضامن بين جميع المسؤولين الكبار أولاً على المستوى الأفقي، وبرمي الفتات إلى الجماهير الغفيرة على المستوى العمودي

يعرف حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، جيداً، أنّ اللبنانيين العاديين لن يصلوا إلى الجوع، ما داموا قادرين على تدبّر أمورهم. وهو صحيحٌ إلى حدّ كبير، مهما ازدادت البطالة وكبرت نسبة المواطنين دون خط الفقر، لأنّ في لبنان فئات مختلفة للثروة، كلّها لا تصنع اقتصاداً حقيقياً، بل مواربات اقتصادية وتسويات وتذبذب يومي، لكنّها تمنع الجوع بطرق عدة من دون أن ننظر إلى احتمالات العيش الكريم في هذه المعادلة. هو منع للجوع ليس إلاّ...

أما الأثرياء التقليديون من تلك الفئات، وهم خارج هذا البحث، فهم أثرياء، لكنّ التساؤل يبقى محتملاً دائماً، بعيداً عن هذا المقال، حول كيفية وصولهم إلى الثراء. وهناك النشطون اقتصادياً القادرون على الحصول على دخلٍ ثابت، سواء بعمل حرّ أو وظيفة أو مياومة حتى، وتصبح أحوالهم أفضل بكثير في حال تقاضي رواتبهم ودفعاتهم بالعملات الأجنبية، خصوصاً من يعملون مع شركاتٍ أجنبية، أو يشاركون منظماتٍ خارجية. ومن بين النشطين هؤلاء، موظفو الدولة؛ مدنيين وعسكريين، ممن تهاوت قيمة رواتبهم تبعاً لتهاوي الليرة أمام الدولار، لكنّ مداخيلهم ثابتة، وهناك بعض التقديمات المتقطّعة لهم، عدا عن مدخول فئة الفاسدين الصغار من بينهم.

هناك أيضاً من "خبّأوا قرشهم الأبيض ليوم أسود" مثل هذا، سواء كان مالاً سائلاً أم ممتلكات وعقارات، وبدأوا في تبديد مدّخراتهم منذ نهاية 2019. ومن هؤلاء من حجزت المصارف أمواله الدولارية، فبات يتقاضاها تنقيطاً بسعر صرفٍ يعادل نحو ربع القيمة الفعلية في السوق (الدولار الواحد بأكثر من 15 ليرة حالياً)، وبحصةٍ شهريةٍ محدّدة، قد لا تلبي كلّ متطلباته الحياتية، وهو موعود، في أوائل يوليو/ تموز المقبل، بتطبيق تعميمٍ جديدٍ من مصرف لبنان، قد يجعل المودع صاحب الأموال الدولارية ضحية مجدّداً، مهما بدا أولاً أنّه سيحصل على جزء أكبر من أمواله، ومن بينها ما هو بالدولار.

حلّ الأزمة الاقتصادية غير ممكن من دون حلّ المعضلة السياسية، والاثنتان معاً لا يمكن أن تجدا طريقاً إلى الحلّ

لكن، غير هؤلاء وأولئك، كثيرون ممّن لا يملكون أيّ دخل، بل يعتمدون على الآخرين، عن طريق طلب المساعدة والديون، وغالباً من أقاربهم، في الداخل والخارج، من تلك الفئات القادرة على الاستمرار. وبالتأكيد، هناك من يتلقون المساعدات الأممية، خصوصاً اللاجئين، ومن يتلقون مساعدات من الدولة والجمعيات والمنظمات غير الحكومية وغير الحزبية، والمؤسسات المذهبية. وهناك طبعاً من يتقاضون المال والمساعدات الغذائية وغير الغذائية، من الأحزاب التي ينتمون إليها بمسمّياتٍ مختلفةٍ لهذا الانتماء بين عمل وولاء وغيرهما، لا سيما الأحزاب الكبرى القادرة على الحصول على العملات الصعبة، من مصادر تمويلٍ خارجية، بحسب خريطة الانتماء والولاء المعلنة أو غير المعلنة. غير ذلك، هناك من ينشطون في الأعمال غير الشرعية، وهي كثيرة جداً في بلد تشترك فيه السلطات والأحزاب، وإن ادّعت العكس، في توفير الغطاء اللازم لتلك الممارسات المتنوعة التي لا يعاقب القانون إلاّ الصغار من النشطين فيها عادة.

وكلّ هذه المصادر للدخل تفسّر التزاحم على أماكن الترويح من مطاعم ومقاهٍ وشواطئ وغيرها في عطلة نهاية الأسبوع، على الرغم من أنّ البطالة وصلت إلى أرقام غير مسبوقة، وعلى الرغم من طوابير محطات الوقود، وفقدان معظم الأدوية في الصيدليات، وتوجيه الضمان الاجتماعي بعدم استقبال المستشفيات غير الحالات الطارئة، والغلاء المتزايد عشرة أضعاف أحياناً في بضائع وخدمات كثيرة، فهناك من هو قادر على الإنفاق، مهما كانت حدود هذه القدرة، ومهما كان مصدر الثروة، ومهما تحدثت نشرة الثامنة عن جوع، وصوّرت سيدة مسنّة طبخت مجدرة، جعلت تتحدّث عن مأساتها، فيما لم يخطر في بال المراسلة أن تطلب منها خلع أساور وحلق الذهب، كما طلبت منها، غالباً، أن تجهز نفسها للمقابلة بطبخ المجدرة، باعتبارها رمز الفقر.

لن يكون جوع حقيقي في لبنان مهما قيل، لكن لن يكون اقتصاد حقيقي أيضاً

لعلّ الخوف من الوباء والقلق من الأوضاع كافة، لكن في الوقت نفسه انعدام الثقة بقدرة الحكم على حلّ الأزمات، يؤدّيان إلى تلك اللامبالاة. لكنّ ذلك كله يبقينا في أزمةٍ طويلةٍ لا يمكن لصندوق النقد الدولي، وإنّ فرّخ عشرات الصناديق والمبادرات، أن ينتشل اللبنانيين منها، خصوصاً أنّ الانهيار مستمر. فهذه "التنفيسات" المستمرة تلعب دوراً مزدوجاً يمنع احتمالات التغيير، فمن جهةٍ يستحيل الوصول في ظلّها إلى قعر ما، أي فشل كامل، يمكن تخيل بدء حلّ منه، فالنشاط الاقتصادي مستمرّ، وإنْ بفوضى وعدم قدرة على الضبط حيناً، وفي شذوذٍ عن التوقعات العلمية أحياناً. ومن جهة أخرى، تمنع تلك "التنفيسات" بصفاتها المختلفة، لا سيما الطائفية من بينها، قيام أيّ احتمال للتغيير السياسي من خلال الانتفاضة، فاللبنانيون يرضون منذ زمن طويل بـ"أنصاف الحلول" وبـ"إبقاء الأمور على ما هي عليه" مهما ساءت، طالما أنّهم ما زالوا قادرين على عيش يومهم، بعيداً عن التخطيط البعيد أو التفكير بمستقبلٍ ما... هم متكيفون تماماً مع مثلهم الشعبي "اللبناني كيف ما تزتّو بيجي واقف" مهما قيل إنّ المعنى المقصود مختلف. وهذا يعود، في جزء كبير منه، إلى عدم نهوض مشروع المواطَنة يوماً، إلاّ في المهرجانات الانتخابية التي تلمس الجزء الظاهر من تلك المواطَنة المتخيلة، بينما الجزء الخفي منها طائفيٌّ بحت، كما تلمس الجزء الظاهر من الديمقراطية، بينما المستتر منها أقرب إلى العلاقة ما بين الزعيم المقاطعجي ورعيته.

حلّ الأزمة الاقتصادية غير ممكن من دون حلّ المعضلة السياسية، والاثنتان معاً لا يمكن أن تجدا طريقاً إلى الحلّ، ما دام التدجين يفعل فعله في الناس، سواء كانوا من موالي الزعماء والمنتمين إلى الأحزاب ومؤيديها، أو كانوا من المستقلين المعارضين لها، حتى ممن شاركوا في الحراك الثوري الشعبي بداية من 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، فللتدجين أشكال مختلفة تساير كلّ طرف، وتطبّع مشاركته السياسية والاقتصادية إيجاباً وسلباً، مهما بلغت الأزمات من خطورة.

في ظلّ هذه المعادلات، لن يكون جوع حقيقي في لبنان مهما قيل، لكن لن يكون اقتصاد حقيقي أيضاً، أما الحلول السياسية السطحية عادة، فلتُسأل عنها عواصم القرار، وهي التي تزايدت وتشعبت، أكثر مما كانت عليه في أيام الحرب، قبل ثلاثين عاماً.

F79ED122-582A-49B8-AE82-4B38F780EFB4
عصام سحمراني
صحافي لبناني، سكرتير تحرير مساعد في الصحيفة الورقية لموقع "العربي الجديد".