من أجل مستقبل سياسي مختلف للجزائر

من أجل مستقبل سياسي مختلف للجزائر

09 اغسطس 2021
+ الخط -

بعد المقاطعة الكبيرة في الجزائر للانتخابات الرئاسية التي أجريت في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وللاستفتاء على الدستور الذي جرى في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، قاطع أغلب الجزائريين مجدّداً الانتخابات التشريعية التي أجريت في 12 يونيو/ حزيران 2021. وبذلك تبرز المقاطعة الشعبية للانتخابات سلوكاً ثابتاً لدى الناخبين الجزائريين، وذلك في أقل من 18 شهراً. لا يمكن ربط حجم عزوف الجزائريين عن المشاركة في الانتخابات الثلاثة الأخيرة بعدم اهتمامهم بالسياسة، بل هو تعبير عن عدم اقتناع الجزائريين بجدوى الانتخابات، في ظل الوضع السياسي الحالي. يعود هذا الوضع إلى استمرار تجاهل النظام دمج الآليات والمتغيرات الجديدة في إدارة الشأن السياسي، من خلال إصراره على المحافظة على الوضع الراهن، عبر إدارة البلاد بأساليب قديمة، لا تتناسب مع الواقع الجزائري المتغير. وذلك إضافة إلى غياب ثقافة ولغة الحوار لدى السلطة مع مختلف مكونات المجتمع وغياب مبادرات سياسية، والشجاعة السياسية لدى من يحكمون. هكذا تسهم العوامل المذكورة في توسيع الفجوة بين الحاكم والمحكوم، خصوصاً في مراحل انتقالية كالتي تعيشها الجزائر اليوم. ولهذا تتفاقم الأزمات كلما عبّر الشعب عن تطلعاته إلى مستقبل سياسي آخر، وأن يُحكم الجزائريون بطريقة مختلفة عن التي حكموا بها منذ الاستقلال .. ولضمان مستقبل سياسي آخر للجزائر، يقوم على المشاركة الواسعة للجزائريين، يجب إحداث ثلاثة تحوّلات رئيسية متمثلة بالآتي:
أولاً، القطيعة مع ممارسات الأمس: بعد أسابيع من التظاهر السلمي للجزائريين في مختلف المدن، لجأ النظام مجدّداً إلى لغة القوة والعنف والاعتقالات، لترهيب الجزائريات والجزائريين، للقضاء على الحراك الشعبي السلمي، الذي شاركت فيه مختلف مكونات المجتمع الجزائري، وخصوصاً الشباب ممن الذين ولدوا بعد عام 1990. وهكذا برزت لغة القوة وسيلة وحيدة للحوار، التي يلجأ إليها النظام في مواجهة مطالب الشعب الجزائري المشروعة في التغيير.

على الرغم من تعدّد تحولات المجتمع الجزائري، لا يزال النظام يعتمد على الممارسات والأساليب القديمة في التعاطي مع المراحل الانتقالية

لا يمكن اعتبار لجوء النظام الجزائري إلى القوة، لحل مشكلة سياسية، سلوكاً جديداً، فهو ممارسة متأصلة في ذاته. ولقد لجأ في تسعينيات القرن الماضي، في ظل وضع سياسي واجتماعي، بل وحتى ديموغرافي مختلف، إلى الأساليب نفسها أمام الإسلاميين، بعد وقف المسار الانتخابي في الجزائر سنة 1992. لكنّ اعتماد القوة والعنف للتحكّم في المراحل الانتقالية في الجزائر تجد جذورها في الأيام الأولى من الاستقلال، وخصوصاً في أزمة صيف 1962. ففي صيف ذلك العام لجأ أخوة الأمس إلى العنف والإقصاء من أجل حلّ خلافاتهم السياسية، وكان عنفاً لم يستثن منه حتى رموز الثورة الجزائرية، كما تشهد على ذلك تصفية وسجن شخصيات سياسة تاريخية وبارزة عديدة آنذاك. لهذا، يمكن القول إن سلوك النظام بقي ثابتاً في طبيعة تعاطيه مع مختلف الأزمات السياسية، حتى في المراحل الانتقالية. وفي بالمقابل، عرف المجتمع الجزائري تحولات مختلفة بين 1962 و2021، انطلاقاً من التطور الذي حدث في الجزائر، وتغير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسكانية، ومنه ارتفاع عدد السكان. ففي عام 1962، لم يتجاوز عدد سكان الجزائر 12 مليون نسمة. أما اليوم، فعدد سكان الجزائر يبلغ حوالى 44 مليون نسمة. تضاف إلى ذلك تحوّلات منظومة القيم، وطبيعة علاقة الجزائريين بالسياسة ومع مؤسسات الدولة، فضلاً عن التحوّلات الاقتصادية التي عرفتها الجزائر.
وعلى الرغم من تعدّد تحولات المجتمع الجزائري، لا يزال النظام يعتمد على الممارسات والأساليب القديمة في التعاطي مع المراحل الانتقالية من خلال اللجوء إلى العنف والاعتقالات، متجاهلاً التحولات التي عرفها المجتمع الجزائري في العقود الأخيرة. لهذا، إن عقيدة النظام لا تتناسب مع الواقع الجزائري الجديد، الذي هو في تحول مستمر. بل إنها تتعارض كذلك مع أنماط الحوكمة المعاصرة. لهذا، إن الممارسات الحالية للنظام تجاه الحراك والحراكيين ومكونات عديدة في المجتمع الجزائري لن تحل الأزمة السياسية في الجزائر، بل إنها ستدفع نحو توسّع الهوة بين الحاكم والمحكوم، وتزايد التوترات بين الشعب ومؤسسات الدولة، وخصوصاً الأمنية.

الحوار السياسي الحقيقي والشامل هو الذي يتجلى من خلال إقامة مشاورات وطنية بشأن تحديث الدولة ومؤسساتها، لأن الدولة الجزائرية في حاجةٍ إلى تحديث وعصرنة

ثانياً، إقامة حوار سياسي شامل وهادئ: تتطلّب إدارة المراحل الانتقالية والأزمات اعتماد إجراءات جديدة، لعل من أهمها إقامة حوار سياسي. ويشترط فيه أن يكون حواراً مسؤولاً وهادئاً وبعيداً عن كل ملامح التخوين والاتهامات والتخويف والقمع. ولعل من بين مميزات الحوار السياسي الجاد أنه يكون بالشراكة مع مؤسسات الدولة، لكن من دون رعايتها المطلقة. نقول هذا لأن إدارة المراحل الانتقالية تتطلب اعتماد قواعد حوكمة جديدة من دون أن يؤثر ذلك بسيادة الدولة. ولعل من بين مميزات الحوار السياسي أنه من دون شروط مسبقة؛ مفتوح تشارك فيه المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، والجمعيات والنخب من الداخل والخارج، للمساهمة في إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد. ولا يقتصر على مشاورات بين السلطة والأحزاب، أو بعض الفاعلين، فالحوار السياسي الحقيقي والشامل هو الذي يتجلى من خلال إقامة مشاورات وطنية بشأن تحديث الدولة ومؤسساتها، لأن الدولة الجزائرية في حاجةٍ إلى تحديث وعصرنة. يضاف إلى ذلك أن إدارة الجزائر اليوم في حاجةٍ ماسّة إلى قدرات وكفاءات بشرية وطنية حرّة بعيدة عن مبدأ الولاءات التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم.
اعتماد الحوار السياسي في الجزائر سيتوافق مع توجهات الجزائر الخارجية في حل الأزمات السياسية في دول الجوار وغيرها، إذ لا يمكن النظام أن يدعو دوماً إلى الحلول السياسية لفضّ النزاعات في الخارج، وهو، في الداخل، لا يقدّم للجزائريين غير القمع والعنف لحل الأزمات السياسية. وتصحر الحياة السياسية وتعفنها منذ تسعينيات القرن الماضي، وإضعاف الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني، وتراجع مشاركة الجامعات والنخب تجاه ما يحدث في الجزائر، كلها عوامل لن تسهل إقامة هذا الحوار. لكن، مهما تعدّدت المعوّقات، يبقى الحوار القناة الوحيدة للخروج من الأزمة السياسية التي تعرفها الجزائر والتأسيس لمستقبل سياسي آخر للجزائر. إن مواصلة إلغاء الحوار الجاد بوصفه أداةً لإدارة الشأن العام في الجزائر ستنتج منه لا محالة مضاعفة التوترات والتحدّيات وهدر مزيد من الطاقات والوقت، ما قد يرهن مستقبل الجزائر كذلك.

تتطلب الشجاعة السياسية التخلّي عن الذين عرقلوا السير الطبيعي لمؤسسات الدولة، مهما كانت مناصبهم، وذلك بعيداً عن تصفية الحسابات المعهودة

اعتماد الحوار السياسي الجاد أداة من أدوات إدارة البلاد سيسهم، من دون أدنى شك، في تشييد جزائر أخرى، جزائر تقوم على مشاركة الشعب في صنع القرار وصنع مستقبله، بعيداً عن "الشعب" الذي حُـكم باسمه عقوداً طويلة، في ما يمكن وصفه "حكم الوصاية" من منطلق اعتباره "غير راشد." ويشترط في إقامة حوار هادئ ورصين، تشارك فيه كل مكونات المجتمع من دون شروط، أن تتحلى النخب الحاكمة العسكرية والمدنية بالشجاعة السياسية اللازمة، شجاعة سياسية تهدف إلى إحداث قطيعة مع عديدٍ من ممارسات الماضي والحاضر وتغيير لها، حتى لو تطلب الأمر عدم إرضاء الكل. الشجاعة السياسية طبعاً لا تعني المخاطرة بمستقبل البلاد، بل هي تبني خياراتٍ جديدةً للمصلحة العام.
لعل من بين أول تلك الخيارات، الإصلاحات المؤسّسية، ولا سيما إعادة تحديد أدوار المؤسسات المختلفة، مثل المؤسسة العسكرية، الرئاسة، الوزارة الأولى، البرلمان والقضاء، إلخ. وتتطلب الشجاعة السياسية التخلّي عن الذين عرقلوا السير الطبيعي لمؤسسات الدولة، مهما كانت مناصبهم، وذلك بعيداً عن تصفية الحسابات المعهودة. وتشمل الخيارات الجديدة أيضاً إحداث تغيرات في طبيعة إدارة الحياة اليومية للجزائريين، وتحسين القدرة الشرائية والظروف المعيشية لهم، فضلاً عن الحد من التفاوتات الاجتماعية، وذلك لأهمية مثل هذه التغيرات في تنفيذ إصلاحات هيكلية مختلفة. وتقترن الشجاعة السياسية برفع جميع أشكال الهيمنة التي تفرضها مؤسّسات الدولة على الأحزاب السياسية والصحافة والمجتمع المدني، بما في ذلك المؤسّسات الاقتصادية، ما يتطلب مراجعة وظائف الدولة ومختلف مؤسساتها، مروراً بإصلاحات اقتصادية عميقة.

الحوار والشجاعة السياسية من أهم مقومات نمط حكم الغد ودعائمه، من أجل تهيئة أفضل الظروف السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية للأجيال المقبلة من الجزائريين

الشجاعة السياسية، التي أسفرت عن تحوّلات سياسية سلمية وناجحة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، هي التي ستضمن وتيرة التغيرات المأمولة في الجزائر ومجالات تطبيقها، من دون أي استثناء، وإلا فإننا نستمر في إعادة إنتاج أساليب الحكم نفسها.
والمؤسسات السياسية والإدارية في الجزائر، وعلى غرار بقية الدول العربية، لا تعتمد الحوار آلية تواصل مع المواطنين، يضاف إلى ذلك أنها تلغي روح المبادرة والشجاعة السياسية في إدارة الشأن العام. لكن إنجاح العملية السياسية في زمن تتعدّد فيه المخاطر والتحدّيات يتطلب تجاوز تلك الممارسات التقليدية، والتوجه نحو نظام يقوم على اعتماد الحوار أداة عمل وتواصل مع المواطنين، بعيداً عن لغة القوة والعنف، وإحداث انفتاحٍ في العمل السياسي والمؤسّساتي يقوم على روح المبادرة والشجاعة السياسية. لهذا يمكن اعتبار الحوار والشجاعة السياسية من أهم مقومات نمط حكم الغد ودعائمه، من أجل تهيئة أفضل الظروف السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية للأجيال المقبلة من الجزائريين، الذين سيصل عددهم إلى ما يقرب من 61 مليوناً عام 2050 وفقاً للأمم المتحدة. فمن من غير المقبول أن نورث ممارسات النظام الحالية للأجيال القادمة من الجزائريين.
ومؤكّد أن اعتماد لغة الحوار أسلوباً ثابتاً للحكم، وكذلك رفع جميع ملامح القمع والتخويف، سيقللان تدريجاً من انعدام الثقة بين الحكام والمحكومين، ما يسهم في التوجه نحو تطبيع تدريجي للعلاقات بين المؤسسات السياسية والمواطنين الجزائريين، ويبعد الجزائر عن أزمات محتملة، ويقلّل من حجم التوترات.