منفضة سجائر في ظلال البعث

13 فبراير 2025
+ الخط -

عاجزتني سيّدة ألمانية حسناء، في أمسية قصصية، أن أكتب قصة تشيخوف التي لم يكتبها، فسُمتها على طريقة نتنياهو مع غزّة: أعلى مذهب تشيخوف الحزين، أم على مذهب عزيز نيسين، أم على مذهب الإنكليز في قصص الرعب، أم على مذهب معمّر القذافي في القص والسحب؟ فسألتني مندهشة: أولهذا الطاغية مذهب في القصة؟ فقلت وفي القلب غصّة: كان يكتب قصة طويلة العنوان، تبدأ من فجر الزمان، وفي قصتي سيدلُّ إبليس آدم أبا الخلق على شجرة الخلد وملك لا يبلى، وتكون شجرة تبغٍ لا شجرة تفاح أو دفلى، فضحكت، وقالت: أكتب على كيفك، أيها الفطين... وأمهلتني ساعة، من أجل البضاعة، فكتبت:

كان يا ما كان شاب هوى جارته الصبية، وكانت حسناء بهيّة، ذات قدٍّ واعتدال، وكان بينهما سور عال، فقد كان فقيراً، وكانت غنية، وصاحبة أنعام، تسبب للقلب العلّة والأسقام، وكان يرسل إليها الرسائل مكتوبة على طائرات ورقيّة، فقد كان حبّاً من طرف واحد، مثل حب الفانز للفنانين والمشاهير الأماجد، ثم إنه من شدة الهوى، وتباريح الجوى، وعذاب الغرام، والوجد والهيام، تعلّم التدخين كي تنجلي الغمّة وينفى غراب البين. ولأنه كان فقيراً، كان يدخن لفائف اليد، ويختار من التبوغ أفضلها، حتى أدمن النيران. يعبُّ النار في كل حين وآن. ودارت الأيام ومرّت الأيام، وكلها أشجان، وقصف بالطائرات الورقية العاشقة، وسحب الدخان الغامقة، وكان يدخن حتى يمتلئ ميدان المنفضة بجثث السجائر، وتدور على رأسه الدوائر. شبّه نفسه لها في رسالةٍ بأنه مقاتل، بندقيته السيجار، يحمي به الذمار، ويدافع عن الديار. قال الراوي: فردّت عليه الحبيبة مرةً بطائرة ورقية، فطار من السرور من غير بقيّة، حتى أنه أخذها إلى النجار وعمل لها أحسن إطار، وعلقها مثل الشهادة على الجدار، قالت له فيها: لقد قصفت قلبي بطائراتك المغامرة، وسأقبل بك زوجاً، وإنّ لي مهراً وأساورة، ليست في بلاد الأكاسرة ولا القياصرة، فأرسل إليها طائرة ورقية محمّلة بالأشواق، تهمي لها المدامع من الأحداق. وقال: اطلبي ما تريدين، سأذهب إلى لبنان وأعمل في البناء والعمران، أو أعمل في تهريب التبغ من بلاد التركمان. ... فردّت عليه بطائرة مسيّرة ورقية، كان ينتظرها وهو يدخّن، ليس من فمه، وإنما من فؤاده المحتقن. قالت: لقد أقنعت أبي وسيقبل بك أن تكون الصهر، ولي مهر واحد لا غير، وهو أن تكفَّ عن السيجارة، ومهري هذه الأمارة، فأصبح يقلّب كفيه على عروشها، فكيف يقتلع هذه الشجرة من شروشها، وجرّب أن يكفَّ عن التدخين يوماً، على أن يتركها دوماً، قال الراوي: ثم أرسل إليها طائرة ورقية زاجل، وقد عصفت بقلبه البلابل، كتب فيها: أشرقي من وراء السور، فقد كانت آخر مرّة رأيتك فيها منذ أيام الصبا والحبور، فردّت عليه بطائرة ورقية تقول: موعدنا المغيب أيها الحبيب. فلما رآها سألها: أين سعدية؟ فقالت: أنا سعدية. ... وكانت قد سمنت كثيراً، واهتبلت لحماً وفيراً، وكان يعلم أن الإناث يكبرن بسرعة البرق، لكن ليس أن تصير سعاد حسني أمينة رزق!

ثم أرسل إليها طائرة ورقية كتب فيها: حبيبتي سعدية، لقد جرّبت الكفَّ عن التدخين، وشأني في حبّك شأن ساعي البريد الذي كان ينقل رسائل عاشق إلى حبيبته، فوقع في حبِّها، وقد وقعتُ في حبِّ التدخين، لقد ألفتها أصابعي والشرايين، فأنا أعزف عليها كل حين، ولن أستطيع أن أستغني عن الدخان، فقد حوّلتني من أنس إلى جان، ولن أقبل أن أعود إلى القمقم والقارورة، ولن أخون العهد مع السيجارة الأمورة، ولو منحوني سنغافورة، وقد أدمنتُ طقطقة القدّاحة، أقدحها في كل مجلسٍ وساحة، أشعل سجائر الصحاب والأغراب، وأصطلي بها في البرد، ولا يخون العهد إلا كل خؤون وغد. والسلام ختام.

أعجبت الألمانية بالقصة، وصفقت لي وعانقتني، وعندما عدتُ إلى البيت، فعلت بي زوجتي ما فعلته إسرائيل بغزّة العديّة، وبشّار الأسد بسوريّة، فقد كانت هي مترجمة القصة الفوريّة، وظلت تشتم مرّةً سعدية، ومرّات تشيخوف والسيّدة الألمانية، وحرمتني من وجبتي الشهيّة، وجبة بشار الأسد الأوليّة، طبق الملوخيّة.

أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر