مناورة نتنياهو الأخيرة
انفرجت الأسارير بالإعلان، مساء الأربعاء، عن اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، بعد عدوان دموي دام أكثر من 460 يوماً. ورغم الفخاخ الكثيرة في بنود الاتفاق وغموض آليات التنفيذ، وحتى غياب الضمانات بعدم استئناف الاحتلال الإسرائيلي عدوانه، إلا أن غزّة وأهلها يستحقون فسحة تنفّس بعيداً عن الغارات والقصف والموت اليومي. لكن الفرحة لم تطل بعدما خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بتصريحات يدّعي فيها تنصّل "حماس" من بعض بنود ما اتفق عليه، وهو ما نفته الحركة سريعاً، متّهمة نتنياهو بمحاولة إسقاط الاتفاق.
الاتهام صحيحٌ بنسبةٍ كبيرة جداً، خصوصاً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يكن يريد الاتفاق من أساسه، وهو كان يسعى إلى المماطلة وكسب الوقت في الجولة التفاوضية أخيراً، على غرار ما فعله في كل المفاوضات التي حصلت خلال السنة ونيف من العدوان، وانتهت جميعها إلى الفشل. غير أن السياق الدولي الجديد ما عاد يسمح لنتنياهو بإفشال هذه الجولة، بعد التهديد الصريح للرئيس المنتخب دونالد ترامب بـ"فتح أبواب الجحيم" في حال عدم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن. والتهديد، وإن لم يكن موجّهاً فقط إلى نتنياهو، بل يشمل "حماس" أيضاً، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أدرك أنه المعنيّ بشكل أساسي في الكلام، سيما أن "حماس" أبدت مرونة كبيرة في الجولة التفاوضية أخيراً، وقدّمت تنازلاتٍ سمحت بالتوصل إلى الاتفاق.
وما زاد من هذا الإدراك بالنسبة إلى نتنياهو، إيفاد ترامب مبعوثه لشؤون الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، إلى إسرائيل للضغط على نتنياهو. وبحسب وسائل الإعلام العبرية، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الاعتذار عن عدم استقبال المبعوث الأميركي بذريعة تزامن الزيارة مع دخول السبت لدى اليهود، إلا أنه سمع "كلاماً نابياً" من ويتكوف الذي التقى نتنياهو بالفعل يوم السبت. اللقاء، وأيضاً وفق وسائل الإعلام الإسرائيلية، كان "متوتراً" وحاسماً في مسار المفاوضات، إذ ضغط خلاله المبعوث الأميركي على رئيس الوزراء الإسرائيلي لقبول التنازلات اللازمة لتأمين صفقة الرهائن بحلول 20 يناير/ كانون الثاني الحالي، أي موعد دخول ترامب البيت الأبيض.
يفسّر هذا المسار من الضغط الأميركي للوصول إلى اتفاق محاولات نتنياهو للتنصّل من التطبيق، وخصوصاً أنه لا يزال غير قادر على إقناع ائتلافه الحكومي بالتصويت لصالح وقف إطلاق النار، رغم الوعود التي قطعها لوزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، ووزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، ومنها كان التوسع في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، واستئناف العدوان على قطاع غزّة بعد الانتهاء من تطبيق المرحلة الأولى من الاتفاق، التي تمتد 42 يوماً.
على الرغم من ذلك، من غير المرجح أن ينجح نتنياهو في محاولاته، وخسارة الدعم الأميركي عموماً، وترامب خصوصاً، ولا سيما أنه ناور كثيراً في الاستجابة لمطالب الإدارة الأميركية السابقة، ووصل الخلاف بين الطرفين إلى درجةٍ عاليةٍ من التوتر، وهو ما لم يستسغه ترامب في حينه، لجهة عمل نتنياهو على إفقاد الولايات المتحدة هيبتها.
تصريحات نتنياهو اليوم مناورة أخرى، لكنها هذه المرّة لن تصل إلى حدود تفجير الاتفاق، بل تحسين الشروط التي تُرضي الائتلاف الحكومي، خصوصاً في ما يتعلق ببقاء قوات على محور صلاح الدين (فيلادلفي)، وعدم التفكيك الكلي للمعسكرات الإسرائيلية التي أقيمت في قطاع غزّة بعد احتلال أجزاء منه، تمهيداً لاستئناف العدوان في أي لحظة تريدها إسرائيل.
مؤكّدٌ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يعد بإمكانه الانقلاب على اتفاق وقف إطلاق النار، لكنه يسعى جاهداً كي لا يكون وقفاً نهائياً.