ملك على عرش غزّة 

05 نوفمبر 2025
+ الخط -

كان طرح ترامب الأول بشأن غزّة أن تؤول ملكيتها إليه، لكي يتصرّف فيها لتحويلها "ريفييرا الشرق الأوسط"، شريطة تهجير أهلها إلى الدول المجاورة، مصر والأردن بشكل أساس. ومع الوقت، بدأ الرئيس الأميركي محاولةً لتهدئة ردّات الفعل الرافضة لمسألة تهجير الفلسطينيين وتوزيعهم بين دول الشرق الأوسط.
شهور عديدة مرّت على قنبلة "التهجير من أجل ريفييرا البيت الأبيض"، حتى انعقدت قمّة شرم الشيخ تتويجاً لنتائج اجتماع ترامب مع حكّام من العالمين العربي والإسلامي، الذي تمخّض عن تصوّر أميركي لإنهاء الحرب في غزّة، يتأسّس على إنهاء زمن المقاومة ونزع السلاح، واختصار القضية في مساعدات غذائية وإعادة إعمار، وإيجاد تنمية يتولّاها دونالد ترامب شخصياً من طريق اختراع مجلس للسلام يحكم القطاع تحت وصاية الرئيس الأميركي شخصياً، بحيث لا يكون هنالك دور لفصائل المقاومة أو السلطة الفلسطينية بوضعها الحالي.
الآن، وبحسب الوثيقة الأميركية التي كشف عنها موقع أكسيوس قبل يومَين، فإن دونالد ترامب يعود إلى فكرة امتلاك غزّة من دون تهجير، إذ وفقاً لتصوّره تبدو غزّة مساحةً جغرافيةً مكتشفةً حديثاً لا يملكها أحد أو يحكمها، فلماذا لا يكون ترامب ملكاً عليها؟ وبحسب مسودّة الوثيقة التي يريد الرئيس الأميركي شرعنتها من طريق مجلس الأمن الدولي، فإنها تمنح واشنطن والدول المشاركة (يختارها ترامب بالطبع) تفويضاً واسعاً لحكم غزّة وتوفير الأمن حتى نهاية عام 2027، وكذا إنشاء قوة دولية تتولى نزع السلاح من القطاع وتدمير البنية التحتية العسكرية للفصائل الفلسطينية ومنع إعادة بنائها، وأيضاً تأمين حدود غزّة مع إسرائيل ومصر، مع إسناد مهام إضافية لقوات الأمن الإسرائيلية داخل غزّة لتحصين الاتفاق الذي انتهت إليه وثيقة شرم الشيخ.
بالطبع، لم تنسَ مسودة الوثيقة الأميركية التأكيد على بقاء "مجلس سلام ترامب" المكلّف بحكم غزّة قائماً حتى نهاية العام 2027 على الأقلّ، مع الأخذ في الاعتبار أن الموضوع تجاوز مرحلة أنه تصوّر أو مقترح تناقشه الإدارة الأميركية، بل مشروع أرسلته واشنطن إلى أعضاء مجلس الأمن لانتزاع  قرار إنشاء قوة دولية في غزّة.
يجدّد ترامب بهذه الوثيقة رغبته في أن يكون المتصرّف في غزّة، فاتحاً لها من دون قتال، بحيث تكون شأناً أميركياً خالصاً، مع أدوار للكيان الصهيوني والدول التي ترضى عنها واشنطن وتل أبيب، ولا تتضمّن كلمةً واحدةً أو إشارة إلى مستقبل الشعب الفلسطيني في غزّة، وإن كان السياق العام لوثيقة ترامب ينظر إلى الفلسطينيين مجموعةً بشرية لا رأي ولا قيمة لها، على نحو يعيد إلى الذاكرة مأساة الهنود الحمر حين وصول الغزاة الفاتحين الأوروبيين إلى تلك القارة المهجورة التي أخذت فيما بعد اسم "الولايات المتحدة الأميركية" بعد إبادة سكّانها الأصليين، ومن تبقى منهم تعامل معه الغزّاة بوصفه جزءاً مكملاً للطبيعة. 
الفارق في حالة ترامب وغزّة أنه لا يرى الإنسان الفلسطيني جماعةً بشريةً منقرضةً وزائدةً على الوجود الإنساني، ذلك أن نحو خمسة قرون من التطوّر الحضاري تحول دون ذلك. فضلاً عن أن العالم يعلم جيّداً أن هذه الأرض اسمها فلسطين، وأن من عليها فلسطينيون، لكن الرئيس الأميركي لا يعترف بجدارة هذا الشعب بامتلاك وطنه، وإدارته، وأقصى ما يمكن أن يمنحه ترامب له أن يُبقى في غزّة أيدٍ عاملةً رخيصةً يسخّرها في إعادة بناء القطاع المدمّر على يدَي واشنطن وتل أبيب، ليكون "ريفييرا" تبهر الأبصار والعقول، يحكمها ويديرها ملك أميركي جديد.
ما ورد في وثيقة ترامب مهينٌ للدول العربية والإسلامية، مجتمعةً ومنفردةً، وحال تمريره والموافقة عليه عربياً، فإن المسألة تنتقل من الخذلان إلى الخيانة القومية الشاملة لشعب شقيق، كما أن قبول أيّ طرف فلسطيني به سيبقى عاراً تاريخياً وخضوعاً لمنطق استعماري قديم/ جديد يحتقر الإنسان الفلسطيني ويجرّده من إنسانيته.
ولا أظن أن فلسطين عدمت رجالاً يهتفون في وجه الفاتح المدجّج بالغطرسة، ويقولون مثل قول الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو ردّاً على إرهاب ترامب: "قد تقتلني، لكنني سأبقى في شعبي الذي وُجد قبل شعبك في الأميركيَّتَين. نحن أبناء الرياح والجبال والبحر الكاريبي والحرية".

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة