ملفّ الذاكرة الجزائرية وظاهرة "كتّاب في مُهمّة"
يستدعي عنوان المقالة، في البداية، توضيحاً لعبارة "كتّاب في مهمّة". تشير الى تزامن نشر بعض ممّن يعتبرون كتّابا وروائيين أعمالاً تناقض سرديّة الرمزية الخاصّة بالذاكرة التاريخية، لا سيّما بعد صدور تقرير بنجامين ستورا الذي جرى اعتباره نقطة النهاية فيما يمكن أن تسمح به فرنسا في الملف، وأغلقت، بذلك، نهائياً (تقوم، أحيانا، بتحرُّكات محسوبة من دون أثر على الذاكرة على غرار وضع اكليل من الزهور على قبر المجاهد العربي بن مهيدي أو الإعلان عن مسؤولية الدولة الفرنسية على تعذيب ومقتل المناضل الفرنسي اليساري موريس أودان والمحامي علي بومنجل، رحمه الله، إضافة الى فتح الأرشيف بصفة محدّدة وجزئيّة) أغلقت أيّة إمكانيّة للسّعي نحو ثُلاثية الاعتراف والاعتذار ثمّ التعويض (يطالب بها الجانب الجزائري في إطار أعمال لجنة مصالحة الذاكرة التي جرى الاتفاق على إنشائها بين الجزائر وفرنسا لحلّ معضلات التاريخ بين البلدين). ومن ناحية مقابلة، سعى هؤلاء الكتُّاب، في أعمالهم الأدبية تلك، إلى مساندة مسار السعي الفرنسي في سرديّته التاريخية.
يزعم كاتب المقالة إنّ ثمّة مهمّة جرى الايعاز بها لكتُّاب تحت غطاء الأدب المغاربي الفرنكفوني وباسم حرّيّة التعبير، من ناحية، ولتعزيز ميلاد مسار تصالح الذاكرتين التاريخيتين الجزائريّة والفرنسيّة، ولكن بمضامين غير التي جرى الاتفاق على إثارتها ومعالجتها، من ناحية أخرى، وسبق للكاتب الكتابة عنها في مقالات في "العربي الجديد".
للتذكير فقط، ليس الزعم المُشار إليه من قبيل نظريّة المؤامرة، بل ستورد المقالة قرائن هي بمثابة تدليلات سياقية على وجود جهتين فاعلتين تُحرّكان المشهد، وهما جهات فرنسية أدبية بخلفيّة سياسيّة (دور نشر، فاعلون في الساحة الأكاديميّة والأدبيّة الفرنسيّة) وجهات، للأسف جزائرية ومغاربية، وهي مجموعة من خمسة كتُّاب، هم المغربيان الطاهر بن جلُّون وليلى سليماني (فازا، من قبل، بجائزة غونكور، أرقى الجوائز الأدبيّة، في فرنسا) وثلاثي جزائري هم كمال داود (الفائز، أخيراً، بالجائزة نفسها)، ياسمينة خضرا وبوعلام صنصال، الى جانب لفيف من كتُّابٍ، في الجزائر، دأبوا على رفع أصواتهم في قضايا اعتبروها من قبيل حرّيّة التعبير، احترام الحريّات العامّة، مجابهة التيّار الظلامي إضافة الى حريّة المرأة.
كتّاب متحالفون مع جهات فرنسية تعبّر، كلّما أُتيحت لها الفرصة، عن الحنين إلى الجزائر فرنسية
لماذا كتّاب في مهمّة؟ لعلّ ذلك يعود، إضافة إلى ما تقدّم، إلى أن هؤلاء متحالفون مع جهات فرنسية تعبّر، كلّما أُتيحت لها الفرصة، عن الحنين إلى الجزائر فرنسية، وهم من اليمين المتطرّف المتهّم بأنّه معادٍ لملف الذاكرة ويعمل، سياسيا، بصفة خاصّة، على تثبيت أركان العقيدة الفرنسية الخاصة بالذاكرة بتركيبة متناقضة مع السردية الجزائرية، حيث تركز على ثنائية تتضمّن إيجابية المشروع الاستعماري - الاستيطاني (كان الرئيس الراحل شيراك قد شرع في 2004، في تحضير مشروع قانون يحمل عنوان "تمجيد الاستعمار")، من ناحية، ونكران المسؤولية عن تبعات ذلك المشروع من مجازر، تهديم للهوية أو حتى اجراء تجارب نووية وكيميائية (أجرت فرنسا تجارب نووية في صحراء الجزائر، على سبيل المثال)، من ناحية أخرى.
هناك ركيزة ثالثة تعمل فرنسا على تثبيتها في عقيدتها تجاه ملف الذاكرة، وهي الاعتماد على نخبة إما فرنسية تروّج تلك الثنائية المذكورة أو من البلد الأصلي الذي وقع ضحيّة للمشروع الاستعماري- الاستيطاني (الجزائر) ويحملون، في هذه الحالة، أسماء "المخبر من الأهالي" أو "ذريعة عرقية" (Informateur indigène-Alibi ethnique) وكلاهما مفهومان معروفان في الدراسات ما بعد الكولونيالية في تعريف الاغتراب الفكري أو الانحراف الهوياتي لكتّاب ونخبة تتنكّر لشعوبها وتؤمن بالعقيدة الاستعمارية الاستيطانية، وتحاول نشرها، بل والدفاع عنها تماما، كما فعل كمال داود في رواياته أو مقالاته وبوعلام صنصال في كثير من كتاباته ولقاءاته الإعلامية، جديدها أخيراً، وتم إيقافه (صنصال) بسببه في الجزائر، ذلك اللقاء مع بودكاست فرنسي شهير في الدائرة اليمينية المتطرفة، حيث أنكر أن يكون للجزائر تاريخ أو حدود معروفة.
تساهم تلك الركائز الثلاث في صنع مشهد المهمّة التي تشكّك في ثوابت تاريخية كان الرئيس الفرنسي قد بدأها بإنكار وجود أمّة جزائرية وارتكاز ملف الذاكرة، من الجانب الجزائري، على ما أطلق عليه إشكالية ريع الذاكرة، أي الاستخدام المصلحي، سياسيا، من الجزائر للملف، وهو العمل نفسه الذي يقوم به السفير الفرنسي السابق دريانكور الذي أعاد الى الذاكرة مضمون لقاء جرى بين الملك الراحل الحسن الثاني والجنرال ديغول في إبريل/ نيسان 1962 (بعد إعلان وقف إطلاق النار في الجزائر في مارس/ آذار 1962 وأشهر قبل الاستقلال الذي جاء في 5 يوليو/ تموز من العام نفسه)، وكان منصبّاً على وجوب إعادة ما يسمّيه المغرب اليوم "الحقّ التاريخي" أو "الحدود الحقّة"، أي ما يزعم من مناطق يُطلق عليها مسمّى "الصحراء الشّرقية"، ليكون الحديث نفسه من دريانكور هو منطوق كلام بوعلام صنصال، أيّاماً قبل مجيئه الى الجزائر، على قناة بودكاست يميني متطرّف.
ركيزة تعمل فرنسا على تثبيتها في عقيدتها تجاه ملف الذاكرة، الاعتماد على نخبة فرنسية أو من البلد الأصلي الذي وقع ضحيّة للمشروع الاستعماري- الاستيطاني
دور الكاتب الآخر، كمال داود، في المهمّة، كان أعمق، حيث ركّز على مسائل خاصّة بنفسية الشعب الجزائري والمغاربيين، بصفة عامّة، عندما كتب مقالة عن الكبت الجنسي والعنف عند المغاربيين غداة وقوع أحداث ليلة رأس السنة في مدينة كولون الألمانية (جرى اعتداء على نساء في احتفالات رأس السنة في المدينة)، وهي مسألة تبيّن، بعد التحقيق أنها ملفقة وغير حقيقية، كما كتاب لفيف من النخبة المثقّفة الفرنسية الشريفة بيانا في صحيفة لوموند وصفوا فيه مقالة داود بأنّها إسلاموفوبيا في حقّ المغاربيين. وما فتئ كمال داود، منذ 2014، العام الذي انطلقت فيه انزلاقاته وانحرافاته، يكتب مقالات عن العنف ضد المرأة، العداوة للانفتاح والخلفية الاستبدادية للأفراد والمجتمع في الجزائر مصوّراً البلاد بأنّها ظلامية وتعيش على الماضي (بالمعنى الديني للماضي وبالمعنى التاريخي له أي على الذاكرة الاستعمارية الاستيطانية الفرنسية)، لينتهي، في مهمّته، بكتابة رواية "حوريات" (نال بها جائزة غونكور للعام الحالي، 2024) التي حاول فيها مناقضة سردية الذاكرة الإجرامية الفرنسية في مشروعها الاستيطاني في الجزائري بسردية العشرية السوداء لأنّها، وفق رأيه، من فعل الجزائريين، فيما بينهم، في إعادة لفكرة ريع الذاكرة التي يُقال، وفق مصادر فرنسية، بأنّه من أوحى بها الى ماكرون، عندما رافقه في زيارته الجزائر في 2022 ضمن الوفد الفرنسي وفي الطائرة الرئاسية الفرنسية، مزهوّاً بجنسيته الفرنسية المكتسبة (حصل بوعلام صنصال على الجنسية تقريبا في العام نفسه وللمهمّة نفسها).
طبعا، لا نتحدّث، هنا، عن نظرية المؤامرة ولا نبرّر أي موقف أو ما جرى، ولكن، إحقاقاً لحقّ، لا يمكن أن تجتمع كل هذه القرائن في موضوع مهاجمة الجزائر وإرادة تثبيت أن ثمّة حقائق يجب مراجعتها، في إطار مضمون مقاربة يعرفها المؤرّخون (Revisionism)، ترتكز على الإنكار، وعلى إرادة إعادة بناء حقائق جديدة اعتماداً على أكاذيب وادّعاءات. وإلّا يكفي لدحض مقولة صنصال، والملك الراحل الحسن الثاني والسفير الفرنسي السابق درايانكور، أن المقاومة الكبرى للمشروع الاستعماري الاستيطاني الفرنسي كانت من الأمير عبد القادر الجزائري، أول رئيس للدولة الجزائرية الحديثة، ومنطلقا من الغرب الجزائري من مدينة معسكر إلى غاية الحدود الجزائرية- المغربية الحالية (بنقطة وادي ملوية)، بل ثبّت السلاطين المغاربة تلك الحدود بمنع لجوء الأمير عبد القادر، في بعض المعارك، إلى المغرب، وحدّدوا، بذلك، تاريخياً، جغرافية الجزائر الحالية التي سبق لصاحب هذه المقالة الكتابة عنها في "العربي الجديد" بعنوان "جغرافية الجزائر"، ومن دون إغفال أن الحسن الثاني، هو نفسه، من قبل ترسيم الحدود وصادق عليها برلمانا البلدين، في سبعينيات القرن الماضي.
هذه حقيقة صنصال وداود، كتُّاب في مهمّة. وبالرغم من تأكيدي في مقالاتي بشأنهم على وجوب مناقضة كتاباتهم بالوعي وبالكتابة، الا أنهم تمادوا، كثيراً، في معاداة بلدهم وأمتهم بزيارة صنصال الكيان الصهيوني ومصادقته صهاينة كثيرين في فرنسا وكذا اليمين المتطرّف، ولكتابة داود، من جهته، مقالة، في 2014، في أعقاب مجزرة صهيونية في غزّة، عنوانها "لماذا لا أساند الفلسطينيين؟".