Skip to main content
مكاسب المعرفة في خلاف حلّاق وسعيد
مهنا الحبيل

أكتب اليوم تزامناً مع صدور كتابي الجديد، "وائل حلاق وإدوارد سعيد جدلٌ ثالث". وعلى الرغم من المسافة الزمنية التي تفصلنا عن تاريخ الطبعة الأولى لكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" مطلع السبعينيات، إلا أن قضاياه لم تزل توقظ حركة التأييد والمعارضة، وإن كان سعيد، كما ذكر وائل حلاق، قد اكتسب هيمنة روحِ طاغية على مشاعر الباحث والأقسام الأكاديمية ذات العلاقة. غير أن حلاق في معهده الجديد، من حيث الحصر لجدليات الفلسفة في حقول الأكاديميات الغربية المتعدّدة، وعبر كتاب "قصور الإستشراق"، قفز بهذا المسار إلى أفق أوسع وأرحب، وأكثر تماسّاً مع أزمة العصر، وواقع العالم الحديث الذي يربط أسئلة النكبات الإنسانية مع مسؤوليات الحداثة المادية. ولذلك، لا يجوز أن يُنظَر إلى كتاب وائل حلاق، في تقديري، كرد أو نقد لإدوارد سعيد فقط، وإنما كمدونة مميزة وتشكُّل خطابي أكثر عمقاً، لنقد معطيات الفلسفة المقيدة، بهذه الحداثة ذاتها، أو التي أُنشئت تحت حقولها المقننة. 
من الخطأ الكبير أن يُنظر إلى هذا العِلم النقدي، وإطاره الحديث، بأنه مجرّد جدل فلسفي، يضاف إلى منصّات البحث، فدورات هذا الجدل المترادفة في الحياة الأكاديمية المعاصرة تحمل الإبداع النقدي، والتعقب الدقيق، والتبريرية العاجزة. أما في حالة حلاق، وإنْ كان ينقل كثيراً، ويتوقف عند كل تقاطع فكرة تمرّ عليه، في دراسات الباحثين، حتى من صَغره سناً وجهداً، وهذه ميزة تضاف إلى قلمه، فمجمل تحريراته الفلسفية الخاصة توجه رسالة أخلاقية إلى العالم الجديد، لكسر جدار الصمت، عن مصادر المعرفة؛ المعرفة كما وُلدت مع الإنسان، وكما ثبتت دلائلها في الطبيعة، وفي الرحلة التاريخية للأرض، وفي التجربة البشرية المؤكّدة، هي واجب العلم الحديث الأول. وهو يعني، بالضرورة، أن تحرير هذا العلم يعني التقليل من القتل الصناعي، ومن التوظيف الإنسانوي المتوحش الذي سخّر التفوق المزعوم، لصناعة كوكب خير باسم الغرب، وكوكب شر باسم العالم الجنوبي، من دون أن تُستخدم هذه المصطلحات بقدر أن تُرصد آثارها، ويرى العالم ضحاياها الذين تسحقهم هذه الآلة المادية. ليس بالقتل المباشر، ولا بنزع خبزة الفقير من يده بالضرورة، ولكن من خلال مآلات العالم الآلي الذي فرضته الحداثة المادية. ولذلك فإن مصطلح الكولونيالية، باعتباره تاريخاً قد وقع، لا يعبِّر مطلقاً عن الحقيقة القائمة بين أهل الأرض.

قضايا الإستشراق لم تزل توقظ حركة التأييد والمعارضة، وإن كان سعيد، كما ذكر وائل حلاق، قد اكتسب هيمنة روحِ طاغية على مشاعر الباحث والأقسام الأكاديمية ذات العلاقة

الغرب بذاته ومصالح إنسانه يعيش تحت هذا البأس الذي لا يُسقطه صخب الفنون وضجة الأسواق التي تَسقط وتُعاد صناعتها، بالفلسفة العاجزة المريضة نفسها، بل التي تحمل فيروس القتل في فلسفتها، في البيئة الإجتماعية التي تم تجريفها في الغرب، فضلاً عن الطبقية الاقتصادية الحديثة، وآثار الرأسماليات الحديثة في الإعلام والأسواق. بل والخلل في مقاصد الديمقراطية، وتنظيم تراتبية الحكم، والتدافع السياسي، لصالح مفهوم العدالة الإجتماعية الخيري للشعوب، كلها اليوم تضغط على أبناء هذا الغرب الذي من خلاله صُدّرت فلسفة الحداثة إلى العالم، وتمكّنت من أكاديميته. والفشل في الشرق والتخلف لا يُلزم الفلسفة الصمت عن خلل الرؤية الغربية، سواء ما أثّر في الشرق ذاته، أو ما بدا مهدّداً لإنسان الغرب.

الخلل في مقاصد الديمقراطية، وتنظيم تراتبية الحكم، والتدافع السياسي، لصالح مفهوم العدالة الاجتماعية الخيري للشعوب، كلها اليوم تضغط على أبناء الغرب

ومن ثم وضعتُ هذا الكتاب في سياق الرصد التفاعلي لأفكاره وواقع العالم، من خلال رؤى وائل حلاق الناقدة، ومن خلال استدعاء إدوارد سعيد، نقداً أو مشاركة في أصل المفهوم، ومن خلال الإضافة الذاتية التي حرصنا على تدوينها، بعد رسم صورتها بما نرجوه من أمانةٍ علمية، فيقف القارئ الكريم على دلالات ما يقرأه ويتأمله في حال هذا العالم، وأين مصداقية ما يقرأه بين ركام الفشل الذريع للعالم الحديث.
لا يقف تقديرنا الكبير الممتن لجهود حلاق وسعيد عند المكانة الأدبية، وإنما لأخذ المسؤولية في المضي في المشاركة في التحرير الجديد لأروقة الفلسفة المعاصرة. وقد يرى بعضهم، وهو تساؤل من حقهم، أن هناك شروطاً تمييزية للمشاركة في الجدل، يحصرها في الرواق الأكاديمي، وأنه ليس من حق الآخرين، وخصوصا خارج المؤسسات الأكاديمية، وبالذات في معهد المعرفة الإسلامية المستقل، غير المعتنى به، والفاقد أساسيات الإمكانية التنافسية التي يمتلك فرضها الغرب. ونقول إن جزءاً من أزمة الوصول إلى المصادر هو هذه المشارطة ذاتها، فكيف تُعزل فكرة، أو رأي نقدي تشاركي، لكونه لم يحظَ بإذن (أو مباركة) هذه المؤسسة الأكاديمية أو تلك، أو أن المنطلق الفلسفي يحمل بعداً مستقلاً عن أدوات الحداثة المعاصرة التي تتحفظ على مشاركته، فنحن هنا نطرح الفكرة في سماء المعرفة العام للإنسانية، لوعيها ثم الحكم عليها.

وضعتُ هذا الكتاب في سياق الرصد التفاعلي لأفكاره وواقع العالم، من خلال رؤى وائل حلاق الناقدة، ومن خلال استدعاء إدوارد سعيد، نقداً أو مشاركة في أصل المفهوم

إنني إذ أشير إلى أزمة التصوّر الذي يهيمن على الفكرة العامة في المجتمعات، حين يُطرح نقد الحداثة المادية، ويتذكرون بأن بناءً مادياً أو علمياً أو تقنيات قانونية إدارية للحياة المعاصرة، نجحت فيها هذه الحداثة، وخصوصا في مسارات الطب، وتيسير صعوبات الحياة، فالجدل النقدي هنا ليس في نقد الآلة التي نجح عبرها العالم الحديث أو القديم، لمصالح الإنسان، إنما لتصحيح مرجعها الأخلاقي، ونقد الجانب الآخر الذي ساهم في تدمير العالم، وحصار الإنسان منذ رحلة طفولته، حتى دار عجزته.
وأؤكد هنا أن تحريرات موقف معادلة المعرفة الإسلامية التي تُطلَق لصالح البشرية كأسرة إنسانية، وقد وردت في الكتاب، يُقصد منها الإشارة إلى البعد الثالث، وأن هذا البعد وتحرير مادة كتاب عنه، في نقل قيمه إلى العهد المعاصر، عبر الحداثة الأخلاقية المختلفة، يحتاج إلى مهمة كبيرة، لا أنفي الشراكة في المسؤولية عنها. غير أني أطمع أن تتحوّل صناعة هذه الفلسفة الأخلاقية الجديدة إلى مسار أكاديمي دراسي متفاعل، يعودُ إلى وعي التراث ومصادر المعرفة الإسلامية، والتجربة الاجتماعية وتاريخها، من الباحثين الجدد، من الشرق المسلم ومن الغرب الجديد، ومعيارهم التنافسي هو المصداقية للوصول إلى الحداثة الأخلاقية الجديدة.