مقعد فارغ في الفصل

مقعد فارغ في الفصل

01 يونيو 2022

الشهيد غيث يامن: ادفنوني بمكان في أطفال عشان ما أضل لحالي

+ الخط -

لا تعرف متى سوف تعتاد على وجود مقعده الفارغ في الفصل. أنت معلم، أو أنت تلميذ زميل. لا تعرف ولست واثقا أن ذلك سيحدُث، فجأة اختفى ذلك الكائن الصغير من الفصل. كان يجلس في المقدّمة، ولكن عينه تسرح عبر زجاج النافذة، ويسمع صوت الرصاص من بعيد، وربما يتخيّل نفسه يتصدّى للرصاص، أو ربما تخيّل أن رصاصة قد أصابته، فتجده ينتفض انتفاضة صغيرة، ثم يحاول أن يتابع الدرس. وبعد أيام، تكتشف أنه قد اختفى، وهناك باقة ورد قميئة، أصبحت تحتل مقعده الفارغ من أحلامه وتخيلاته وضحكاته ولفتاته. باختصار؛ إنه مقعده الفارغ من حياته.

باقة ورد أو إكليل من الورد سيبقى عدّة أيام في المكان، لن يطلب أحد المعلمين من تلميذ آخر أن يجلس مكان الراحل والفقيد. ولن يجرُؤ أحد على زحزحة الإكليل أو الباقة، فكل ما في الأمر أن هناك من سيجمع الأوراق التي تذبل وتسقط أرضا، ويضعها في حاويةٍ قريبة وهو يتنهد. وهناك من سيقف طويلا أمام الإكليل وينحني، والأكثر سوف يقف ويتخيل ويستذكر، وفي كل مرّة، لا أحد يعرف إلى متى سيبقى هذا المقعد فارغا حتى ينتهي العام الدراسي، وتفرّق الإجازة الصيفية رفاق الموت والحياة.

تذكّر جيدا ذلك اليوم الصيفي الحارّ الذي عاد فيه أبوك من المدرسة، وكان وجهه مكفهرا على غير العادة، وظلّ صامتا على مائدة الغداء، ولم يتفوّه بكلمة حتى تلوت اسم أحد التلاميذ الصغار الذين سقطوا برصاص العدو، وذلك إبّان انتفاضة الحجارة، هنا انتفض الأب وتكلم عن ذلك الصغير المشاكس، وقال بكل أسى الدنيا: ذبحني رحيل الفتى الذي لم أكن أتوقف يوما عن تأنيبه، لأنه يقصّر في أداء الواجب المنزلي، ولكنه كان ذكيا، ولا يتوقف أبدا عن رفع يده للإجابة عن أصعب أسئلتي، حتى تكاد يده تقتحم عينيّ، وهو يحاول أن يكون أول من يجيب. ليتني لم أفعل، ليتني لم أكن أعاقبه ذلك العقاب الساذج الغبي، سوف أشتاق كثيرا ليده الممدودة التي أزيحها بصعوبة من أمام وجهي. اليوم ترقد تلك اليد إلى جواره في قبر بارد وموحش ومعتم.

لستَ تدري كيف يموت التلاميذ الصغار الملاحقون بأقدارهم، الذين يولدون على هذه الأرض، وتخطف أعمارَهم الندية رصاصة غادرة، رصاصة لا تسأل نفسها لماذا لم تغير مسارها، فقد أعماها حقد أسود. وفجأة يسكت ويهمد كل شيء. لا شيء يحدُث بعد أن يموت التلميذ الصغير، وبعد أن يصطفّ رفاقه أمام ثلاجة الموتى، ليلقوا عليه النظرة الأخيرة، وهناك من يهمس في أذنه بشيءٍ لا تسمعه. وهناك من يدسّ تحت القماش الأبيض المطبوع باسم المشفى بحروف عربية وإنكليزية بشيء صغير أيضا، ربما كان قصاصة ورق، وربما كان مقلاعا يدويا صنعاه معا، حين خرجا يوما بين المروج المحيطة بالبلدة لصيد العصافير. ولم يكونا يعرفان أنهما عصفوران مبللا الأجنحة في عيني قنّاص يحمل كل بغض الدنيا.

هكذا غاب الفتى، غيث يامن، المسجل في الصف العاشر في مدرسة عبد الحميد السائح في نابلس، غاب وأبوه يصرخ بسؤال سوف يلاحق القتلة حتى آخر بقعة في الأرض وحتى آخر لحظة في أعمارهم الفانية: لماذا فجّرتم رأس ابني إلى أشلاء؟

غاب الصغير الفتى صاحب الوصايا السبع الغريبة والعجيبة والعميقة، المولود على هذه الأرض لأم وأب فلسطينيين، والمنحدر من ظهر أجداد أربعة فلسطينيين، والناجي من درسٍ رتيب، ومن منهج بارد، ومن حصص مكرّرة، والصاعد إلى السماء والتارك وصيةً تصيب أقوى القلوب في مقتل.

غيث يامن الذي انتظره الرفاق لآخر مرة في المشفى، في محاولةٍ أخيرةٍ للنجاة من موت محقق، الرفاق المصطفّون بلا نظام، ولكن في صمت كأن على رؤوسهم الطير، ترك سبع وصايا، أهمها ألا يدفنوه بجوار الكبار، فقلبه رقيق كجناح فراشة، وعليهم أن يضعوه بين الأطفال؛ ليحكي لهم آخر حكاية سمعها عن مقعدٍ فارغ سيبقى كذلك إلى الأبد.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.