مقترح برسم حماس... استراتيجية للتفاوض تُنقِذ غزّة وأهلها

24 مارس 2025

غزّيون ينزحون إلى خانيونس مع استمرار القصف الإسرائيلي على رفح (23/3/2025 الأناضول)

+ الخط -

على مدار نحو عام ونصف عام، اتسمت جولات التفاوض بين حكومة الاحتلال وحركة حماس، عبر الوسطاء المصريين والقطريين والأميركيين، باعتماد التفاوض تحت النار، لمبادلة أسرى إسرائيليين، وآخرين متعدّدي الجنسيات، بأسرى فلسطينيين، ولفرض وقف إطلاق النار. وبينما تركّزت جهود "حماس"، ومعها فصائل أخرى، في مقدّمها "الجهاد الإسلامي"، على إطلاق الصواريخ على أهدافٍ حيويةٍ بعضها في تلّ أبيب، عمدت استراتيجية الاحتلال، منذ البداية، بعد عملية 7 أكتوبر (2023) ضدّ غلاف غزّة إلى استهداف المدنيين والمباني السكنية، ثمّ البنى التحتية من إمدادات الكهرباء والماء والصرف الصحّي، وصولاً إلى استهداف جميع المنشآت من مدارس وجامعات وأسواق ومستشفيات ومراكز دفاع مدني ودور عبادة. وقد استلهمت حكومة بنيامين نتنياهو في ذلك أسوأ ما في سجلّ الحروب والصراعات من الحرب العالمية الثانية باستهداف الحلفاء مدناً ألمانية، إلى حرب التطهير العرقي في البلقان (تسعينيّات القرن العشرين)، إلى فصول الحرب الأهلية في رواندا، إلى سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها نظام الأسد في سورية بمشاركة قوات روسية ومليشيات إيرانية وعناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

لم يستهدف الاحتلال عناصر المقاومة حصراً، فالمستهدف الأول والأكبر هو البشر، ما يجعل من استمرار الحرب خطراً ماحقاً

وتخللّت ذلك مواجهاتٌ في الأرض بعد بدء الغزو البرّي لقطاع غزّة، فعملت قوات الاحتلال (بما فيها قوات النخبة ولواء غولاني وغيرهما)، على استهداف كلّ هدفٍ متحرّكٍ وساكن، ومُنيت خلال ذلك القوات الغازية بخسائرَ بشريةٍ كبيرة، كذلك شكّل الركام وأنقاض المباني المهدومة عائقاً أمام تحرّك آليات الاحتلال وأفراده. فيما جرى في الأثناء تدمير مظاهر الحياة ومصادرها، ابتداءً من الشمال (بيت لاهيا وجباليا وبيت حانون) إلى وسط القطاع (حيث مدينة غزّة) وصولاً إلى خانيونس ورفح، وتسبّب ذلك في دورةٍ من عمليات النزوح المتكرّرة، في ظروفٍ من الرعب وفي نشر الدمار على أوسع نطاق، ما أثقل كواهل أغلبية الناس، وبينهم مرضى وحوامل ومُسنّون ورُضّع.
ورغم أن حركة حماس في بياناتها المتتابعة أدركت طبيعة الحرب الاستئصالية، إلا أنها بقيت تراهن على صمود مقاتليها ومقاتلي بقية الفصائل من أجل إحداث فرقٍ في هذه المنازلة. وعلى هذا المنوال، سارت وقائع هذه الحرب، فجيش الاحتلال يخسر في يوم ما ضبّاطاً وجنوداً منه، فيثأر لهم باستهداف مائة مدني، وتدمير مزيد من البيوت على رؤوس قاطنيها، ولاحقاً إحراق الخيام بمن يقطن في داخلها. فيما يُستهدف المُسعفون، وما تبقّى من مراكز صحّية بصورةٍ منهجيةٍ ثابتة. ونستذكر أنه في الأسابيع الأولى للحرب، التي كانت تتركّز في الشمال، استُهدف نحو ألف مدني في الليلة الواحدة، عبر تدمير البنايات والمجمّعات في ساعات الليل، وتحديداً بعد انتصاف الليل. وهذه وقائع معروفة ومتداولة ويذخر بها الأرشيف، ويُذكّر بها هنا للتنبيه أن الاحتلال لم يكن يستهدف عناصر المقاومة حصراً ولا أولاً، إذ إن المستهدف الأول والأكبر هو الكتلة البشرية، ما يجعل من استمرار الحرب خطراً ماحقاً، في ظلّ ادّعاء العجز العربي، والتواطؤ الغربي، وسلبية بقية الدول التي لم يرَ زعماؤها في مقتلة غزّة تهديداً للسلام العالمي.
سباق بين الإبادة والإغاثة
من المفارقات المستمرّة أن حركة حماس ظلّت تلتزم تحقيق أفضل النتائج في المفاوضات، كالسعي لتحرير أكبر عدد من الأسرى، وهذا في حدّ ذاته هدفٌ نبيلٌ ومطلبٌ مشروع، غير أن إطالة أمد التفاوض كان يدفع الاحتلال إلى استثمار الوقت في إيقاع أكبر عدد من الضحايا المدنيين، وتدمير كلّ ما يمكن من تدميره، ما يضيّق فرص الحياة ويجعل القطاع بكامل مساحته مكاناً غير آمن، وغير قابل للعيش فيه، إلا عبر السعي للحصول على ما يقيم الأود، مع التنويه هنا بجهود منظّمات الإغاثة الدولية على ضآلتها، وجهود وكالات الأمم المتحدة، وعلى الأخصّ وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إضافة إلى جانبٍ قلّما تتطرّق إليه وسائل الإعلام، وهو التبرّعات الشعبية من أفراد وجمعيات في دول عربية وإسلامية، ظلّت تتوجّه (حتى أيامنا هذه) إلى ناشطين غزّيين ينشرون يومياً فيديوهات عن تلقّي هذه التبرّعات وتوزيعها على المحتاجين، غير أن ذلك كلّه كان أقلّ بكثير من الاحتياجات الفعلية، وبخاصّة بعد إغلاق الاحتلال جميع المعابر، ما حرم القطاع مساعدات كانت تحملها 600 شاحنة، وكان مقرّراً أن يعبر هذا العدد يومياً إلى القطاع، وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار يوم 19 يناير/ كانون الثاني 2025، الذي سريعاً ما انقلب عليه الاحتلال بما يخصّ إيصال المساعدات والوقود إلى القطاع.
وبما أن الحرب استئصاليةٌ، وليست منازلةً عسكريةً، وبما أنه لا مجال للحديث عن ميزان قوى عسكري أو استراتيجي بين الجانبين، إذ يستخدم الاحتلال الذكاء الاصطناعي في توجيه أسلحته الفتاكة إلى جموع المدنيين المنكوبين، فقد كان واجب شلّ آلة الحرب الإسرائيلية، وإيقاف الحرب، الهدف الذي يتعيّن أن تنعقد عليه الجهود كلّها، وبخاصّة بعد اكتمال المرحلة الأولى من الإفراج عن أسرى فلسطينيين بما يحقّق توازناً معنوياً. إلا أن المراهنة على الصمود العسكري بقيت قائمةً، والحديث لم يتوقّف عن آلاف المقاتلين وترسانات الصواريخ. وفي مراحل متأخّرة من تبادل الأسرى حُرِص على القيام باستعراضاتٍ عسكريةٍ في وجه الثور الإسرائيلي الهائج. بهذا، تم الحفاظ على المنظور العسكري التقليدي للصراع، مع الحرص على عدم تقديم تنازلات، وكأنّه صراع إرادات عسكرية بين دولتَين وجيشَين. وللإيضاح، لم يكن مطلوباً تقديم تنازلات للاحتلال، بقدر ما كان (ولا يزال) مطلوباً إدراك أن إيقاف الحرب مكسبٌ كبيرٌ بحدّ ذاته، حتى لو اكتنفه بعض التنازلات، بحيث يمكن احتساب الأمور والحكم عليها من هذا المنظور، منظور إنقاذ الناس من الإبادة، وإنقاذ القطاع من تدمير إضافي.
كان هذا التوجّه لفرض إيقاف الحرب وما زال يتطلّب دينامية سياسية، باجتذاب الأشقاء والأصدقاء إلى الانخراط في جهد سياسي منسّق لتحقيق هذه الغاية وإبداء كل ما يلزم من قدرةٍ على التكيّف، لتحفيز الأطراف المعنيّة على أن تنشط بهذا الاتجاه، وإذا ما اضطرّت الفصائل إلى تقديم تنازلاتٍ محسوبةٍ وذات مردود، فلا ضير في ما يُحسب تنازلاً من أجل إنقاذ الأرض والشعب، وليس من قبيل الانحناء أمام الاحتلال.
بيئة عربية على غير وفاق مع "حماس"
في الإشارة إلى الدينامية السياسية المطلوبة، ينبغي الاعتراف بأن اضطراب علاقة حركة حماس وانقطاعها مع غالبية الدول العربية قد أضعفا فرص الحركة السياسية، وأبقيا أبواب العواصم مغلقةً أمام ممثّلي الحركة، وهو أمرٌ سابقٌ على وقوع الحرب، التي لم تغيّر شيئاً في هذا الواقع، وهو ما لا يُقارن بالحركة المتاحة للاحتلال تجاه الحلفاء في الغرب، وقد اكتفى الاحتلال باستقبال شحنات الأسلحة بديلاً من الحركة السياسية التي قيّدتها إلى حدّ ما أحكام المحكمة الجنائية الدولية. فيما اصطدمت جهود الوسيطَين العربيَّين، المصري والقطري، بانحياز الوسيط الثالث الأميركي للاحتلال، وأسوأ من ذلك أن واشنطن في عهد جو بايدن، كما في عهد ترامب، ظلّت تلتقي مع تلّ أبيب في هدف كسر شوكتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وبقيّة الفصائل، مع إظهار الحرب الاستئصالية على أنها حرب "دفاع عن النفس" ضد منفّذي 7 أكتوبر (2023). وهذا الانسداد ليس مرشّحاً للتذليل، رغم جهود كبيرة بذلها الوسيطان العربيان، وقد حقّقت هذه الجهود بعض النتائج في انخراط المبعوث الأميركي في المفاوضات أخيراً، الذي اقترح تمديد المرحلة الأولى مع هدنةٍ إضافيةٍ بديلاً حالياً للشروع في المرحلة الثانية، إلا أن خلافاً حادّاً نشب مع حركة حماس حول عدد من الأسرى الأحياء والموتى، يتوجّب إطلاق سراحهم. وقد ركنت "حماس" إلى التشبّث بالالتزامات ومحدّدات الاتفاق الأصلي لوقف إطلاق النار، بينما كانت واشنطن تراهن على ثقلها الكبير في تسيير الأمور، وهو ما لم تلحظه "حماس" جيّداً، وتحسب الحسابات في ضوئه. إذ المسألة هنا ليست محاورةً فكريةً تعتمد الحجج المنطقية، بل هي ببساطة صراع إرادات بين حجوم لا مقارنة بينها. وأمام ذلك، قام الاحتلال بالتصعيد وبتجديد الحرب، ولم يكتم رغباته في إعادة السيطرة على كامل القطاع مع تكبيد الكتلة البشرية مزيداً من الكوارث.

كان شلّ آلة الحرب الإسرائيلية هدفاً يتعيّن أن تنعقد عليه الجهود، بعد اكتمال المرحلة الأولى من الإفراج عن أسرى فلسطينيين، بما يحقّق توازناً معنوياً

لا حاجة للتذكير بوحشية الاحتلال، ولا بالانحياز الأتوماتيكي إليه من واشنطن، التي يفكّر مسؤولوها في عهد ترامب بأسلوب الصفقات، ما يضع الانحياز في منظور جديد، غير أن الحاجة تشتدّ في هذه الظروف لتحرير أبناء غزّة من هذه المحنة المتطاولة، عبر مقاربةٍ جديدةٍ تحفّز الأطراف المعنية على الدفع الجدّي باتجاه وقف الحرب، والمدخل إلى ذلك أن ترتضي حركة حماس الابتعاد عن تصدّر المفاوضات، وهو ما يتساوق مع قبولها منطقَ الابتعاد من الواجهة السياسية في اليوم التالي لوقف الحرب، فيُعهد بالتفاوض (عبر تفويض فلسطيني واسع يضمّ "حماس" والسلطة وبقية الفصائل) إلى الوسيطَين العربيَّين في هذه المرحلة. وهو ما قد يتردّد الوسيطان في قبوله، إلا أن جهوداً ينبغي أن تُبذل في هذا الاتجاه، بعدما بات واضحاً أن استمرار الحرب يحمل أخطاراً تمُسّ بالأمن القومي المصري، ويثقل حركة الوسيط القطري. وللوسيطَين أن يستعينا بمستشارين فلسطينيين قانونيين وسياسيين. ونستذكر هنا أنه في مفاوضات مدريد عام 1991، ارتضى الجانب الفلسطيني أن يمثّله وفد أردني في بداية المفاوضات. ولأن مصر هي التي أطلقت مبادرة إعمار قطاع غزّة، فليكن قيامها مع الوسيط القطري بالتفاوض خطوة ممهّدةً للانتقال إلى تنفيذ تلك الخطوة، ويمكن في الأثناء أن تسيطر قوّة مصرية على معبر رفح من جانبيه، لتنظيم عملية انتقال المرضى والجرحى إلى الخارج، وعودتهم إلى القطاع. كذلك من المفيد دعوة الأردن إلى الانضمام إلى هذه المفاوضات، لكونه بلداً حدودياً مع الدولة العبرية، ولأن أمنه الوطني عرضةٌ للخطر بفعل مخاطر تهجير أبناء الضفة الغربية المحتلة إلى الأراضي الأردنية.
من شأن قيام الوسيطين بدور مفاوضَين وبدور الضامنَين، أن تدور المفاوضات بين دول، وأن يُفرض وقف إطلاق النار خلال التفاوض، وأن يتوقّف استغلال الاحتلال وجود حركة حماس إلى مائدة للتفاوض، للادّعاء أن كلّ ما يفعله ضدّها مشروعٌ ومبرّر، وهو تسويغٌ متهافت، إذ لا أعذار للإرهاب، بما في ذلك إرهاب الدولة الذي يمارسه الاحتلال بلا هوادة، وبطريقة استعراضية شديدة الفجاجة. مع أخذ العلم بأن التفاوض محصورٌ في وقف الحرب على القطاع ومعالجة ذيولها، ولا يشمل الجوانب المختلفة للصراع مع الاحتلال الاسرائيلي.
في ظروفٍ طبيعية غير هذه، يُحترَم فيها القانون الدولي وقرارات المنظّمات والهيئات الدولية، إن تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف كلّ من بنيامين نتنياهو ووزير الأمن الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، كان سينهي الحرب، ويضع حدّاً لوجود حكومة الاستيطان المتطرّفة، غير أن عالمنا المقلوب على رأسه، الذي سمح باستمرار الحرب الوحشية، يدفع الضحية والمُدافع عن شعبه إلى الانسحاب، والتواري في هذه المرحلة، إكراماً لحقّ شعبه في الحياة. ولدرء خطر التهجير، وخطر الاستيلاء على القطاع فارغاً من سكّانه.

محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.