مفاوضات بطيئة و"نجاح" إعلامي فحسب

مفاوضات بطيئة و"نجاح" إعلامي فحسب

23 أكتوبر 2021
+ الخط -

بينما يكتفي الجانب السعودي بوصفها بأنها تجري "في أجواء ودّية"، كما يرد في تصريحات لوزير الخارجية، فيصل بن فرحان، فإن الجانب الإيراني يصف مفاوضات بلاده مع السعودية بأنها "جادّة ومحترمة وحققت بعض النتائج"، وهو مضمون تصريحات متكرّرة أخيرا لوزير الخارجية، حسين عبداللهيان، والناطق باسم الخارجية، سعيد خطيب زادة.
ومنذ بداية العام الجاري (2021)، لم تتوقف "التسريبات" عن اجتماعات إيرانية سعودية، تعقد في العراق (في مطار بغداد الدولي) برعاية مباشرة من رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي. وواقع الحال أن الأخير قد بادر إلى تبنّي فكرة المفاوضات، وأبدى استعداد حكومة بلاده لاستضافتها، من أجل تهدئة الأوضاع في الإقليم، ووقف أية انعكاسات سلبية للخلافات السعودية الإيرانية على الوضع في العراق، ومن أجل استعادة دور العراق العربي والإقليمي. كما تحمست بعض دول المنطقة للفكرة، وأبدت حتى الاستعداد للمشاركة بصورة ما فيها، قبل أن يستقر الرأي على قصر التفاوض على الجانبين، السعودي والإيراني. وكان التفاوض مطلبا دائما ومعلناً لطهران التي ترغب في إشاعة انطباعات عنها بأنها تسعى إلى حلّ المشكلات بالحوار والتعاون، ومن أجل التخفيف من حدّة الانطباعات بأن طهران تقوم بعسكرة علاقاتها الخارجية وتدعم جماعاتٍ وأذرعا مسلحة لها في المنطقة. ولطالما دعا مسؤولون إيرانيون، بينهم الرئيس السابق، حسن روحاني، ووزير الخارجية السابق، جواد ظريف، إلى إجراء مفاوضات مع السعودية، غير أن الرياض ظلت تمانع في الاستجابة لهذا المطلب، من دون أن ترفضه من حيث المبدأ، مشدّدة على أن طهران ينبغي أن تعيد النظر في سلوكها التدخلي وطموحها التوسعي، وتقيم علاقات حسن جوار مع دول المنطقة، ما يفتح أبوابا واسعة للتفاوض وتمهيد الطريق لإقامة علاقات طبيعية.

من شأن التطبيع مع الرياض تعزيز الوضع التفاوضي لطهران في مباحثاتها الدولية حول الاتفاق النووي

وقد تلاقت الظروف لاحقا، ومنذ خريف العام الماضي (2020)، للبدء في التحضير للمفاوضات، عبر لقاءاتٍ ضمّت، في البداية، مسؤولين أمنيين من الجانبين. وكان من أبرز هذه الظروف تراجع الدعم الأميركي لتوفير مظلة حماية للحلفاء، في حال اندلاع مواجهات. وقد بدأ هذا التراجع منذ الولاية الثانية للرئيس الأسبق، باراك أوباما وتواصل مع خلفه دونالد ترامب وتكرّس مع الرئيس الحالي جو بايدن. من جهة ثانية، استمرّت حرب اليمن، من دون أن تلوح في الأفق نهاية لها، وتعرّضت منشآت نفطية ومرافق حساسة، مثل بعض المطارات في السعودية لهجمات من الحوثيين، مع العجز أو ضعف الرغبة الدولية في وضع نهاية لهذه الحرب. يضاف إلى ذلك أن ما أشاعه الانقلاب في المفاهيم والرؤى الاستراتيجية، وتجلى في التطبيع الساخن مع الدولة الصهيونية من "حراك"، والسعي إلى لقاء أعداء الأمس، ليس في منتصف الطريق، بل في عقر دارهم، ما دفع إلى إعادة النظر في واقع القطيعة مع إيران، على الرغم من بقاء التحفظات إزاء سياستها الخارجية على حالها. مع الرغبة في أن يقطف العراق ثمرة هذا التحول، وذلك لدعم هذا البلد في سعيه إلى استعادة مركزه وحضوره في المنطقة.
بدأت المفاوضات بصيغة تهيئة الأرضية لها في اللقاءات الأمنية بين الطرفين، ثم تبعت ذلك مفاوضات تمهيدية، شارك فيها مسؤولون من الجانبين، من غير الكشف عن أسمائهم. وبانتهاء عهد روحاني في إيران، كانت قد تمت ثلاثة لقاءات على الأقل. ثم استؤنفت المفاوضات في إبريل/ نيسان الماضي، واحتفظت الرياض بتوصيفها لها "استكشافية"، فيما يراها الجانب الآخر مفاوضات.. كأي مفاوضات أخرى في عالمنا. ولا يصادف المتابعون عناءً في ملاحظة أن الجانب الإيراني أكثر تحمسا لها من الطرف السعودي، ويعقد عليها آمالاً أكبر، إذ إن من شأن تطبيع العلاقات الإيرانية السعودية أن يمهد الطريق لتطبيع آخر مع دول الغرب، وصولاً إلى أميركا نفسها، فالرياض تمثل مركز الاعتراض الأساسي على السياسات الإيرانية، فضلا عن أن ثمّة حربا فعلية تدور بين الجانبين، بين السعودية بصورة مباشرة وإيران التي تحاول التستّر على وجودها الفعلي والمتشعب في اليمن خلف الحوثيين وإلى جانبهم، تحت أقنعة شفافة. علاوة على أن من شأن التطبيع مع الرياض تعزيز الوضع التفاوضي لطهران في مباحثاتها الدولية حول الاتفاق النووي، وتسويق انطباعٍ مفاده بأنها ليست مصدرا للتوترات في المنطقة.

هناك تفاوض جدّي وشاقّ حول وقف الحرب في اليمن، إذ تدعو طهران إليه، وإلى تقاسم السلطة بين الحوثيين والحكومة اليمنية

وفي تكتيكها التفاوضي، تمنح طهران الأولوية لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بدءا بفتح قنصليات للجانبين، وهو ما تبدو الرياض رافضة له في هذه الآونة، إذ تمنح الأولوية لحمْل الجانب الانقلابي في اليمن على وقف حربه على النظام الشرعي هناك، ووقف تعدّياته على الأجواء السعودية. وبموازاة ذلك، تسعى طهران إلى منح أفضلية في البحث للعلاقات الثنائية، مثل تنشيط التبادل التجاري والتنسيق حول حصص إنتاج النفط وتسويقه وتنظيم عودة الحجاج الإيرانيين إلى أداء شعائر الحج، فإذا تم حلها أو التقدّم على طريق حلها، فإن ذلك يشيع أجواء إيجابية للتداول في بقية الخلافات. وكان لافتا إعلان مسؤول الجمارك الإيرانية، روح الله لطيفي، أن بلاده استأنفت أخيرا صادراتها إلى السعودية، وقد بلغت قيمة هذه الصادرات 39 ألف دولار.. وهو مبلغ رمزي يتكفل تاجر سعودي متوسط الحال باستيراد سلعة (مثل الفستق أو الزعفران) به.
وعلى الرغم من أن الرياض لم تُبد تفاؤلاً ملحوظا، فإن مسؤولين إيرانيين يواظبون على اندفاعهم لمحاولة إنجاح هذه المفاوضات إعلامياً، وتعميم هذا الانطباع، كما أن الرياض لم تشر، في الوقت ذاته، إلى تعثّر المفاوضات أو توقفها. والبادي أن هناك تفاوضاً جدّياً وشاقّاً حول وقف الحرب في اليمن، إذ تدعو طهران إليه، وإلى تقاسم السلطة بين الحوثيين والحكومة اليمنية، فيما يتوقع أن تتمسّك الرياض بالقرارات الدولية ذات العلاقة، غير أنه لا يُستبعد أن يتم تقريب لوجهات النظر، فالطرفان بحاجة إلى إنهاء هذه الحرب التي تستنزف الجميع وأولهم شعب اليمن.
يسترعي الانتباه أنه، في الوقت الذي كانت فيه التقارير الإعلامية العربية، تتوالى عن "تقدّم ما" أحرزته المفاوضات التي تجري وراء ستار من الكتمان، فقد أفادت وكالة الأنباء السعودية، الأربعاء الماضي (20 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري)، بأن وزير الخارجية، فيصل بن فرحان، بحث مع المبعوث الأميركي الخاص بشؤون إيران، روبرت مالي، ملف المحادثات النووية الإيرانية. وأوضحت الوكالة الرسمية أنه "جرى خلال الاستقبال استعراض التعاون الثنائي بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة بشأن الملف النووي الإيراني والمفاوضات الدولية الجارية بهذا الشأن، كما بحث الجانبان تكثيف الجهود المشتركة للتصدي للانتهاكات الإيرانية للاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وأهمية تعزيز العمل المشترك لوقف الدعم الإيراني للمليشيات الإرهابية التي تهدد أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط والعالم".. وفي هذا الموقف الرسمي ما يُلقي ضوءاً على "أجواء" المفاوضات، وخصوصا ما يتعلق بعنصر الثقة.