مفارقات الشرف والعار

مفارقات الشرف والعار

25 يوليو 2021

(لينا بن رجب)

+ الخط -

لنقل إنّها حادثة افتراضية أو متخيّلة، لا أزيد من ذلك: شخصان يقرّران التسلل عبر دولة عربية متاخمة لفلسطين؛ للقيام بعملية فدائية في قلب الكيان الصهيوني، وفي ذهنيهما أنّهما يمارسان واجباً وطنياً مقدّساً ضد أسوأ احتلال عرفه التاريخ، فإن نجحت العملية فنعم النتيجة التي من شأنها أن تزلزل العدوّ، وتبعث في نفوس مستوطنيه الرعب والقلق، وتُشعرهم بأن لا أمن يطول مع اغتصاب الأرض. وإذا استشهدا أو أُسرا فنعم الشرف؛ فالاستشهاد جزء من الفعل النضالي، ونتيجة متوقعة بنسبة تفوق النصف على الأقل، وكذلك الأسر الذي لن يقلّل من النصر، ذلك أنّ مجرد التسلل والاشتباك مع العدوّ يعني إبقاء العدو في حالة استنفار دائم.

يشرع المخططان بالتنفيذ، ويتسلّلان عبر الحدود التي لم تخطّها غير مجنزرات الغاصب ورضوخ المهزوم. لكن ولأسباب خارج السيطرة، يتغير سيناريو العملية بعض الشي، وتحديداً عند خط الحدود؛ إذ يشاء القدر، بغرابته، أن يفصل هذا الخط، لا بين المغتصب والمهزوم فحسب، بل بين المقاتلين المتسلّلين أيضاً؛ فقد اكتشف العدوّ عملية التسلّل في مهدها، فشرع بمطاردة المقاتلين، حتى تمكّن من القبض على أحدهما، بينما نجح الثاني بالهروب واجتياز خط الحدود على نحو عكسيّ؛ ليلقى القبض عليه، لا من العدوّ، بل من الشقيق هذه المرّة.

أما ذروة المفارقة المضحكة المبكية فتكمن في ما يحدث بعد ذلك، عندما يخضع المنفّذان إلى محاكمتين متقابلتين، وبالتهم ذاتها تقريباً، وفي مقدمتها: تسلّل عبر الحدود بطريقة غير مشروعة، وعقد النية المبيتة لتنفيذ أعمال "إرهابية" وتعكير صفو العلاقات مع دولة "صديقة" أو "شقيقة" لا فرق، والانتماء إلى تنظيمات ممنوعة.

تطول مداولات المحكمتين أسابيع عدة. وينتهي المطاف بحبس المتهمين مدداً متماثلة تقريباً، وينتهي السيناريو المتخيّل على غير ما توقعه الكاتب أو الحالم الذي كان يفتش عن "بطولةٍ" ما، تمنحه شكلاً من أشكال العزاء الجمعي لأمةٍ ترنّحها الهزائم، ثم يخلد إلى نوم عميق، بعد أن يسدّ كلّ منافذ الأحلام الخادعة.

ولأنّ المفاجآت تأبى التوقف عند أي خطّ نهاية، يستفيق الحالم الذي لم يعد يحلم، ليكتشف أنّ السيناريو الذي رسمه خرج من بين يديه، وراح يكتب وحده ما يريد، صانعاً مفارقاتٍ وحوادث جديدة لم تكن في الحسبان.

تبدأ العقدة غير المتوقعة حين تتناقل الأنباء خبراً يحمل أحداث السيناريو المتخيل السابق بحرفيّته تماماً: إلقاء القبض على متسللين عبر الحدود، كلّ على حدة، واحد بيد العدوّ، والثاني بيد "الشقيق". وعندها، يتحوّل المتخيل إلى واقع حقيقيّ لا يحتمل اللبس والتكهنات.

يقول الواقع إياه إنّ تلك الوقائع تكرّرت مرات عدة، من دون أن تلفت الانتباه، ربما بسبب الإغماء الطوعيّ الذي ولجته الشعوب العربية، وصار خطّ حدود فاصلاً بينها وبين كلّ ما يذكّرها بعجزها. حدث سابقاً في مصر، حينما تم القبض على متسلّلين من حزب الله كانوا يهرّبون السلاح إلى "حماس" وحدث في غير دولة عربية، آخرها قبل شهور، حين ألقي القبض على مقاتلين، على طرفي خط الحدود. وتكرّرت المحاكمات على الجانبين، ولا أستبعد أيضاً أن تتبادل المحكمتان وثائق الإدانة، ما دامتا تنظران في قضية واحدة، ولا بأس أيضاً في أن يُصدر قاضٍ واحد حكماً على الاثنين معاً، إذا انشغل أحدهما لسبب أو لآخر، فـ"المصلحة واحدة" و"الغاية ذاتها" والذنب مشترك.

يبقى أن ثمّة اختلافاً يسيراً بين "المجرمين" المتقابلين، يتصل بذلك التباين العميق في مشاعرهما، وهما يقفان خلف قضبان الحجز بانتظار صدور الحكم: الأول الذي يحاكم من العدوّ لا ريب أنّه يشعر بزهو بالغ؛ لأنّه كان، منذ البداية، مستعداً لدفع مثل هذا الثمن ضد محتلٍّ غاصب لا يرحم، فيما يشعر الثاني بخجلٍ عميق، لا من "جريمته"، بل لأنّه راهن عندما فرّ من العدوّ أن يحتضنه شقيقه على الطرف الآخر من الحدود، غير أنّ العار العربيّ أبى إلّا أن يتمّم دورته بهذه المحاكمات البائسة. عندها فقط، سيتمنى هذا المقاتل لو أنّه وقع أسيراً في يد العدوّ ليتخلص من هذا العار.

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.