مع الغلاء .. قليلٌ من التواضع لا يضرّ

مع الغلاء .. قليلٌ من التواضع لا يضرّ

18 يناير 2022
+ الخط -

يصادف برنامج الإعلامي عارف حجَّاوي؛ "سيَّداتي وسادتي"، وقد انتقل إلى "العربي 2"، بعد أن عرفه المشاهدون على تلفزيون العربي، نجاحًا لافتًا، وهذا لا يخفى، ولا يُستغرَب، فالإشارة إليه في أحاديث أناسٍ متنوِّعي المجالات ملحوظة، ولا يُستغرَب؛ لأن حجَّاوي غنيٌّ التجرِبة، واسع الثقافة، قديمها وحديثها، لكن داعي هذا الاستدعاء لهذا البرنامج وصاحبه هو تلك العفْوية، المريحة، للمُشاهِد، المتذوِّق، والمشتاق إلى هذه الوتيرة الهادئة والجاذبة؛ يحدِّثك عارف حجّاوي، كواحدٍ من أصدقائك، المُقرَّبين؛ بأُلْفته، السهلة، وحتى بمظهره القريب من الناس، كأنه حَكَّاء في ديوان، بظَرْف الأدباء، وعطف الآباء، وطيبة الأجداد، ولا تقتصر الواقعية على الشكل، لتشمل المضامين، فهو يتخيّر من صميم حياة الناس اليومية، في مطعومهم، ومشروبهم، وحِرَفهم، وجوانب تراثهم، وسائر شواغلهم.
هذه السِّمات الواقعية نابعةٌ من نظرة خاصّة إلى الحياة، وهي ملاذٌ إنسانيّ لا بدَّ منه في مواجهة تغوُّل الزيف والتمظهر، مرتدّةً بذلك إلى ثِيمةٍ بالغة المركزية هي الصدق، كما عبَّرَ عنها أبو الطيّب المتنبِّي: "وَمِن هَوى كُلِّ مَن لَيسَتْ مُمَوَّهَةً/ تَرَكتُ لَونَ مَشيبي غَيرَ مَخضوبِ. وَمِن هَوى الصِّدقِ في قَولي وَعادَتِهِ/ رَغِبتُ عَن شَعَرٍ في الرَأسِ مَكذوبِ". وكما كان من أستاذ الواقعية، وشيخ النثر العربي، أبو عثمان الجاحظ، والذي أتحف الأدب العربي بفرائد الكتب، كالبخلاء، إذ تماهى مع شخصياته، كأنه واحدٌ منهم، من دون أنْ ينصِّب نفسَه حكَمًا على تلك النماذج الإنسانية، وعلى مذهبها في العيش، بلغةٍ لم تنقصها الواقعيةُ قدرتَها التصويرية والجمالية.
هذا الصدق هو الخيط المشدود إلى سائر أوجه الحياة، يواجه، منذ زمن، وهذه الأيَّام، بالذات، مُهَدِّداتٍ متكاثرة، هذا الخُلُق الكُليُّ التأثير، لعله حجر الأساس في أيِّ عمليةٍ تغييرية، نحو الأفضل والأجمل، وهو اللازم الضروري لاجتراح مقارباتٍ تفكيريةٍ منتِجة، وقابلة للتطبيق. في المقابل، فإن الضعف عن الاتصاف به، حرَمَنا من تناوِل ما في المتناوَل، وزادنا إرهاقًا. ولْنأتِ إلى بعض الوقائع المتعيِّنة، في زمن أضحى المال فيه هاجسًا مسيطرًا، والغلاء متغلغلًا، بما ليس من السهل التحايُل عليه.

أغلب أزمات الناس المالية، اليوم، ليست ناتجةً عن الترف، بقدر ما هي ناجمةٌ عن أزمات اقتصادية وسياسية، تتحمَّل الدولة ونظامُها التبعات الكبرى منها

ثمّة مقترحٌ يتكرَّر بتخفيف تكاليف الزواج، وتيسير المهور. والصحيح أن من تلك المتطلبات ما يعود إلى الناس، وفي مُكْنتَهم التخفُّف منه، ومنها ما هو أساسي، لا مهرَبَ منه، وتلك التي لا مهرب منها، مرتفعة الثمن، ومنها السَّكَن، ثم إن السُّكنى أصبحت لا تنفكُّ عن متطلباتٍ مكلفةٍ انضمَّت إلى الأساسيات، كالتدفئة، في هذا الشتاء الشديد البرودة، وعلى النقيض، في أشهر الصيف الحارَّة، وشديدة الحرارة. وقبل ذلك، الطعام نفسه، أصبح توفيره مُكلِفًا، بعد موجة الغلاء التي جاءت بعد جائحة كورونا، هذا الغلاء الذي شمِل سائرَ لوازم العيش، كالعلاج، والتعليم، والسَّفر، وغيرها.
ولكن عجزنا عن التحكُّم في بعض مجالات الحياة لا يلغي قدرتنا على التحكُّم في هوامش أخرى منها، فكلُّ ما يصبُّ في (مظاهر) المكانة، وما يقع ضحية الاستهلاكية، كنمطٍ سلوكيٍّ اتّباعي، يحتاج إعادة نظر جذرية، ويتطلب جرأة التحوّل؛ لأن ثمن العناد على تلك البهرجة الزائدة، والثوب الفائض عن الحاجة، مِن شأنه أن يوقِع المتورِّط به في ظروفٍ ماليةٍ محرجة، محقِّقًا نقيض ما أراد سالكُه من مكانة.
هذا مع إدراكنا أن أغلب أزمات الناس المالية، اليوم، ليست ناتجةً عن الترف، بقدر ما هي ناجمةٌ عن أزمات اقتصادية وسياسية، تتحمَّل الدولة ونظامُها، وسلوك قادتها، والعالم وأنظمته، التبعات الكبرى منها، كما في التوسُّع البالغ الفداحة للفقر في سورية، فوَفقًا للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، يعيش 90% من السوريين في فقر، و60% منهم يعانون من "انعدام الأمن الغذائي"، إضافةً إلى أن 7.78 ملايين لم يكن لديهم عدد أطباء، أو مرافقة طبية مستوفية للمعايير الدنيا المقبولة عالميًّا. ووفقًا لإحصاءاتٍ مفزعةٍ عن الأحوال الاقتصادية والإنسانية في لبنان، يُقدِم شخصٌ واحد، على الأقل، على الانتحار، كلَّ 48 ساعة؛ نتيجة الفقر، والشعور بالعجز والإهانة، فالموضوع ليس موضوعَ تبغْدُد، أو كماليّات أُقحِمتْ في دائرة الأساسيات. وفي مثل هذه الحالة، يصبح الحديث عن الصبر، والرضا، حديثًا منقوصًا، وإيجازًا مُخِلًّا؛ ذلك أن الأزمة لم تعُدْ فردية، حين أصبح الفقر إفقارًا، وأصبح الجوع سلاحًا، للإخضاع، والإذلال، والقهر.

حتى يُصار إلى كسر  التفكير المكابِر في الزيف والتزييف الذي تكرّسه الحياةُ الحديثة، لا بد من نماذج تجسّده؛ من القادة، وذوي التأثير

بالطبع، تتفاوت الأوضاع صعوبة، في البلاد العربية، لكن الغلاء ومكابدة العيش يكادان يكونان السمة الغالبة. وفي هذا الشريط الزماني الفاصل بين ثورة شعوبٍ عربية لنيل حدٍّ معقول من حقوقها وبلوغ تلك الأهداف حالة من المدّ والجزْر، في الآمال، لكن الواقع المَعِيش يزداد صعوبة، في الأغلب. ومع أهمية الحلول الحقيقية؛ بالعدالة وتكافؤ الفرص، ووقف النهب والفساد، والسير في طريق التنمية الحقيقية، وهو ما يتطلب إصلاحاتٍ سياسية، في الهياكل والمضامين، وإلى أن تنضج الظروف لذلك، لا مفرّ من تفكيرٍ أقرب إلى الواقعية، وأن يكون كلُّ جهد مبذول، أو مال منفَق، مستجيبًا لحاجةٍ فعلية، بعيدًا عن تلك النمطيات التي سادتْ وتكرّست، فالتعليم الأكاديمي، الجامعي، مثلًا، والذي يستنزف غيرَ قليل من دخْل الأُسَر العربية، يجب أن لا يكون لمجرّد التباهي بتعليم الأبناء تعليمًا عاليًا، وكأنه رفْعُ عتَب، مع ما يعنيه ذلك من هدر سنوات من عمر الشاب، أو الشابَّة، هي من أهمِّ سنيِّ العُمْر، إنتاجًا، وانطلاقًا، ليعود بعدها، ذلك الخرّيج الجامعي مثقلًا، بدل أن يكون أكثر تأهيلًا لمواجهة متطلبات سوق العمل؛ مثقلًا بوضعه التعليمي، مشفقًا من النكوص إلى أعمالٍ عاديَّة، وإن كان التعليم فليكن فيما يسدُّ ثغرة، وللطالب المتميز القادر، على فرْض نفسه، وسط المنافسة الشديدة، وإلا فليكن الاتجاه إلى المجال الحِرْفي، أو إلى الالتحاق بدوراتٍ تدريبةٍ قصيرة الأجل، نسبيًّا، وأقلّ كلفة، بالقياس إلى التعليم الجامعي، وأقرب إلى الاستجابة، والتكيُّف مع المتطلبات الحديثة، والمستحدَثة.
وحتى يُصار إلى كسر هذا النوع من التفكير المكابِر في الزيف والتزييف الذي تكرّسه الحياةُ الحديثة، وبعضُ منتَجات الإعلام، لا بد من نماذج تجسّده؛ من القادة، وذوي التأثير، مِن أصحاب الرأي، والوجوه الإعلامية المرموقة.