معضلة الخطر الداهم في تونس

معضلة الخطر الداهم في تونس

29 يوليو 2022
+ الخط -

الخطر الدّاهم مصطلح حاضر بشكل لافت للنّظر في السّياق التّداولي الدّستوري المعاصر. والمراد به وجود تهديد حقيقي، وشيك، يُنذر بتقويض السّلم الاجتماعي، وتفكيك وحدة الدّولة، وتعطيل سيرورة مؤسساتها، وتعريض حياة النّاس لمخاطر شتّى. ومن أبرز أمثلة الخطر الدّاهم اندلاع حرب أهليّة أو حدوث غزو خارجي أو ظهور تمرّد داخلي أو نزعة انفصاليّة أو صعود جماعات إرهابيّة أو معاناة البلاد من كوارث طبيعيّة أو انتشار أوبئة قاتلة. وهو ما يستوجب تفعيل حالة الطّوارئ واتخاذ تدابير استثنائيّة، بغاية الحفاظ على كيان الدّولة وضمان استمرار أدائها المؤسسي الناجع، وتأمين حياة المواطنين، وتوفير الخدمات لهم.

وفرضت دساتير جلّ الدّول الدّيمقراطيّة التّقدّميّة قيودا على إعلان الخطر الدّاهم وما يستتبعه من إجراءات، واشترطت تحديده بسقف زمني، وحتّمت التّشاور بين الهيئات السيّاديّة في هذا الخصوص (الحكومة، البرلمان)، وأكّدت ضرورة مراجعة المحكمة الدّستوريّة في هذا الشأن الجلل. والنّاظر في السّياق السيّاسي التّونسي الرّاهن يتبيّن استناد النظام الحاكم بشكل مكثّف إلى مقولة الخطر الدّاهم لتبرير استدامة العمل بالتّدابير الاستثنائيّة. ولذلك تجليّات عدّة وتداعيات جمّة.

مثّل خروج عدد محدود من المواطنين إلى شوارع بعض المدن التّونسيّة، في 25 يوليو/ تموز 2021، للتّعبير عن امتعاضهم من أداء البرلمان واحتجاجهم على فشل الحكومة في التّعاطي مع جائحة كورونا، حدثا قادحا لتفعيل النظام القائم مقولة الخطر الدّاهم ومقتضياتها. وقد اغتنم رئيس الجمهوريّة، قيس سعيّد، ذلك الحراك الاحتجاحي، ليعلن عن جملة من التّدابير الاستثنائية، في مقدّمتها إقالة الحكومة وتجميد البرلمان، وتعليق العمل بأبواب من الدّستور. وارتكن في ذلك إلى الفصل 80 من دستور 2014. وبدا واضحا، بحسب قانونيين، أنّ حاكم قرطاج انزاح عن منطوق الفصل المذكور الذّي ينصّ على أن يظل "البرلمان في حالة انعقاد دائم" زمن الاستثناء، وألاّ يجرى توجيه لائحة لوم إلى الحكومة في تلك الفترة، وأن تجرى مراجعة المحكمة الدّستوريّة في تقدير موجبات حالة الطّوارئ الاستثنائيّة، والنّظر في مداها الزّمني، وضرورة استمرارها من عدمه. لكنّ رئيس الجمهوريّة لم يلتفت إلى تلك الشّروط، وركّز على مسألة "الخطر الدّاهم"، وتعلّل بها لتبرير توسيع نفوذه واستفراده بالحكم، فصوّر للنّاس أنّ احتدام السّجال في البرلمان، والاستقطاب الحادّ بين الأحزاب تحت قبّته خطر على الدّولة، وموجب لإغلاق المجلس النيابي بقوّة العسكر، وأنّ إخفاق الحكومة في معالجة تداعيات كوفيد - 19 موجب لعزلها، وتعيين حكومة أخرى بدلا عنها بطريقة لادستوريّة. ومن ثمّ، ركب قيس سعيّد حجة "الخطر الدّاهم" ليحكم البلاد بالمراسيم، وليستولي على صلاحيّات المجلس التّشريعي، وليتخلّص من حكومةٍ لم تكن طوع أمره. وتأكّد هذا التّوجه مع صدور الأمر 117 (22 سبتمبر/ أيلول 2021) الذّي مدّد بمقتضاه الرئيس التّدابير الاستثنائيّة، ومنح نفسه سلطات تأسيسيّة، وتشريعيّة، وتنفيذيّة واسعة، حتّى أمسى يتحكّم في كلّ مفاصل الدّولة الحيّويّة. وكان لافتا أنّ متن ذلك الأمر الرّئاسي تضمّن الإعلان عن إلغاء هيئة مراقبة دستوريّة القوانين. ودلّ ذلك على أنّها أصبحت تمثّل خطرا بالنّسبة إلى الرّئيس، من جهة أنّها قد تعطّل بعض قراراته، أو تعترض عليها أو تشكّك في شرعيّتها. لذلك عمد إلى إيقاف عملها حتّى يتخفّف من كلّ رقيب قانوني أو منافس له على التّشريع.

جعلت حالة الخطر الدّاهم عدداً معتبراً من المستثمرين يعيشون شعوراً باللايقين تجاه حاضر البلد ومستقبله

ومع تمسّك المجلس الأعلى للقضاء باستقلاليته التّي ضمنها دستور2014، ورفضه توظيف القضاة لتوجيه تهم غير معلّلة لأشخاصٍ محسوبين على المعارضة، تعالت أصوات أنصار الرئيس قيس سعيّد، ونشطت تنسيقياتهم (لجانهم) في المنابر الإعلاميّة وفي شبكات التّواصل الاجتماعي، لتُظهر القضاة في مظهر "الخونة"، و"المتخاذلين" ، و"المتواطئين مع أعداء الوطن"، وجرى تصويرهم خطرا يهدّد البلاد والعباد. وتفاعل رئيس الجمهوريّة مع تلك الحملات المغرضة، فندّد، في بعض خطبه، بعدم تطبيق القضاة القانون، وخدمتهم طرفا سياسيّا على حساب آخر، ونعت طيفا منهم بالفساد، والمحاباة، والارتهان إلى السّياسة في قصور العدالة. وبلغ به الأمر درجة إصدار مرسوم، نصّ على حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وتنصيب آخر بديل عنه. ولم يقف الرّجل عند هذا الحدّ، بل تجاوز ذلك إلى إصدار أمر رئاسي أعفى بموجبه 57 قاضيا من مهامهم بطريقة ارتجاليّة، تعسفيّة، ومن دون مراجعة الهياكل الرقابيّة والتّأديبيّة التّي تشرف على عملهم. وأخبر ذلك، بحسب مراقبين، أنّ استقلاليّة القضاء النّسبيّة تزعج النّظام الحاكم، وأنّ المطلوب ترويض المرفق القضائي وإخضاعه لسطوة السّلطة التّنفيذيّة.

وتعتبر الأحزاب خطرا جاثما على البلاد من منظور الرئيس وأشياعه، وعندهم أنّها تتآمر على أمن الدّولة، وتستهدف سيادة الوطن، وتبيع الوهم للنّاس، وترتهن للخارج. وتتواتر في الخطاب التعبوي لقيس سعيّد وأنصاره عبارات متحاملة عن المتحزّبين المعارضين من قبيل نعتهم بـ"الحشرات، و"الأدران"، و"الشياطين" و"العملاء"، و"الخونة"، و"الذباب"، و"المخمورين"، وتحميلهم وِزر كلّ الخراب والفساد المشهودين في البلاد. ومعروفٌ عن قيس سعيّد أنّه يزدري الهياكل التمثيليّة الوسيطة عموما، والحزبيّة خصوصا، ويعتقد أنّ دورها مستهلَك، وتجاوزها العصر، ويُنظّر لعلاقة مباشرة بين الحاكم والمحكوم في إطار ما يعرف بالنّظام القاعدي. ويبدو أنّ تشويه الأحزاب واعتبارها خطرا قائما توجّهٌ يهدف إلى إضعافها وضرب شعبيّتها والطّعن في صدقيّتها، وتقليص حضورها في المواقع السيّاديّة، وسحب صفة التّمثيليّة عنها، ودفع النّاس إلى الالتحاق بمعسكر الرئيس باعتباره "رجل الشّعب"، و"القائد المخلّص"، والممثّل الوحيد للجماهير من منظور الأدبيّات الشعبويّة.

تعتبر الأحزاب خطرا جاثما على البلاد من منظور الرئيس وأشياعه

أمّا دستور الثّورة الذّي صعد بموجبه قيس سعيّد إلى سدّة الحكم، وأقسم أمام الملأ على احترامه وتطبيقه، فأصبح بعد أن آل إليه الأمر (25/7/2021) خطرا قائما لأنّه في رأيه "يحمل أقفالا يتعذّر معها حكم البلاد"، ولأنّه "يفجّر الدّولة من الدّاخل". وبناء عليه، اختار إلغاءه، ووضع دستورا جديدا بديلا عنه. والنّاظر في دستور الرئيس يتبيّن احتفاله بفكرة الخطر الدّاهم التّي تردّدت في متنه مرارا، فبمقتضى الخطر الدّاهم، بإمكان رئيس الجمهوريّة إعلان تدابير استثنائيّة من دون مراجعة المحكمة الدّستوريّة، ومن دون تقييدها بسقف زمني (الفصل 96). وبموجبه يجوز له التّمديد إلى ما لانهاية في مدتّه الرئاسيّة (الفصل 90). كما يجوز تمديد عمل المجلس النيابي (الفصلان 60،63). ومن ثمّ، أصبح الخطر الدّاهم مطيّة لتأبيد العمل بحالة الطّوارئ والتّدابير الاستثنائيّة، ووسيلة لشرعنة الاستفراد بالحكم وتكريس حكم استبدادي.

والثّابت أنّ لإدمان الاحتكام إلى حجة الخطر الدّاهم في إدارة البلد تداعيات سلبيّة، فمن النّاحيّة السيّاسيّة/ الحقوقيّة، أدّى حكم الاستثناء في السّياق التّونسي إلى التّضييق على الحريات العامّة والخاصّة (التّنقل، التّجمّع، التّظاهر، السّفر...)، وزاد من توتير العلاقة بين المنظومة الحاكمة والأحزاب المعارضة، واستدعى سياسات الدّولة القامعة في التّعامل مع محتجّين. ومن النّاحيّة الاجتماعيّة، بعثت فكرة الخطر الدّاهم في النّاس شعورا بالخوف. فاندفع بعضهم إلى الاحتماء بمعسكر الرّئيس في إطار استحضار ما يعرف بـ"الحكم الأبوي" ووصاية الرّاعي على الرعيّة. في حين دفعت سياسة الخطر الدّاهم آخرين إلى مغادرة البلد بطرق شرعيّة أو غير شرعيّة، فتزايدت موجات هجرة العائلات، والقُصّر، وأصحاب الشهادات العليا بشكل مكثّف بعد 25 يوليو/ تموز 2021، بحسب تقارير مراصد بحثيّة موثوقة.

إنّ تونس تحوّلت تدريجيّا من جمهوريّة الانتقال الدّيمقراطي النّاعم إلى جمهوريّة "الخطر الدّاهم"

ومن النّاحيّة الاقتصاديّة، جعلت حالة الخطر الدّاهم عددا معتبرا من المستثمرين يعيشون شعورا باللايقين تجاه حاضر البلد ومستقبله، فعمد بعضهم إلى تحويل أمواله ومشاريعه إلى الخارج، وأغلقت بعض المنشآت أبوابها، وتراجعت حركة الاستثمار بشكلٍ لافتٍ للنّظر خلال فترة حكم الاستثناء. ذلك أنّ رأس المال جبان، ويحبّذ بيئة تعدّديّة، مستقرّة، آمنة، على مناخ أحادي، مضطرب، تحفّ به المخاطر. وفي السّياق نفسه، أصبحت الحكومة التّونسيّة تجد صعوبة في الحصول على قروضٍ ميّسرة عند خروجها إلى السّوق الماليّة العالميّة، وعند تفاوضها مع الجهات المانحة. ويُفسّر ذلك، في جانب مّا، بحالة عدم الاستقرار السّياسي وهيمنة الخطر الدّاهم على المشهد التّونسي. وقد أدّى ذلك عمليّا إلى ارتفاع نسبة البطالة التّي بلغت 18%. كما تدهورت المقدرة الشرائيّة لمعظم المواطنين في ظلّ غلاء الأسعار وانزلاق الدّينار، فيما تقدّر نسبة التّضخّم بـ8.2% بحسب آخر الإحصائيّات.

بناء على ما تقدّم، الخطر الداهم مصطلح مشكلي/ زئبقي، استغلّ النظام الحاكم عدم وجود تعريف دقيق له في متن الدستور، وعدم تقييده بضوابط صارمة ليجعله بابا للانحراف بالسلطة، ووسيلة للتضييق على المعارضين، والاستئثار بالحكم، بعيدا عن كلّ رقابة برلمانية أو قضائية أو دستورية.

ختاما، يمكن القول إنّ تونس تحوّلت تدريجيّا من جمهوريّة الانتقال الدّيمقراطي النّاعم إلى جمهوريّة "الخطر الدّاهم"، في ظلّ تزايد مخاوف النّظام القائم من الآخر السّياسي، وإصراره على استدامة السّلطة لصالحه، وحرصه على شيطنة المعارضة، واعتبارها مؤامرة تستهدف "رجل الشّعب"، ومشروع هيمنته الشّاملة على البلد. ويُفضي ذلك عمليّا إلى نشأة نظام سلطوي، يتغذّى من صناعة الخوف وثقافة المؤامرة، وتكثير الأزمات، وتحفيز النّاس لمواجهة خطر متخيّل، داهم، جرى تحيينه وتكييفه لتبرير مصادرة الحالة الديمقراطيّة، وتكريس معالم حكم شمولي، مغلق.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.