معركة لأجل "النظام العالمي"

معركة لأجل "النظام العالمي"

06 مارس 2022
+ الخط -

مضت الأحداث على ساحة الصراع الروسي الأوكراني بشكل سريع، فبعد الاعتراف الروسي باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانتسك الأوكرانيتين المجاورتين، بدأت روسيا عملية عسكرية حملت في البداية اسم "حماية إقليم دونباس" الذي كان يتعرّض، وفق الرواية الروسية، لأعمال إبادة، وذلك قبل أن تتوسع لتصبح حرباً تستهدف الوصول إلى العاصمة كييف وإسقاط النظام. وسبق هذه العملية خطاب للرئيس فلاديمير بوتين، ركز فيه على الروابط الثقافية والحضارية بين البلدين، مذكّراً بأن روسيا الشيوعية هي التي صنعت الحدود الأوكرانية، وأنه إذا أرادت أوكرانيا القطيعة مع هذا الماضي عليها أن تعيد هذه المناطق التي منحها السوفييت لأوكرانيا "هدية".

لم يكشف الروس نواياهم، واستخدموا تكتيك التلاعب بالمعسكر المناوئ، فبدأوا بنفي النية في الحرب، ثم الإيحاء بالاجتياح الوشيك، ثم إعلان تراجع القوات بعد انتهاء التدريبات، قبل أن يعترفوا أخيراً بالجمهوريتين والتوغل عبر مساحاتهما. وتذكّر هذه السياسة بما أورده روبرت غرين في كتابه "48 قانوناً للسلطة"، حين أوصى، في إحدى هذه القوانين، بأن يترك الأعداء في حالة من الخوف وعدم اليقين الدائم الذي يجعلهم غير قادرين على تخمين خطوة التحرك المقبلة.

حتى بداية الحملة الروسية، لم يكن هناك رد فعل غربي أو دولي جاد عليها، فعلى الرغم من تأكيد الدول الغربية دعمها ومساندتها أوكرانيا التي تخلت عقب استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عن ترسانتها النووية، عبر اتفاق ظنت أن دول "العالم الحر" ستكفل بموجبه الحماية لها، إلا أن ردود الأفعال ظلت باهتة، خصوصا مع تصريحاتٍ لقادة غربيين، فهم منها أن لا أحد مستعد في الوقت الحالي لخوض حرب فعلية. يندرج تحت "عدم الاستعداد" هذا موقف حلف الناتو نفسه الذي تسبب بكل هذا التعقيد، حين أوحى بأن من الممكن أن يدرس قبول أوكرانيا، ففي أكثر تصريحاتهم قوة كان قادة الحلف يتحدثون عن تفعيل مادة الحماية المشتركة، ولم يتطور هذا الموقف إلا قبل أيام، حين اتفقت الدول الأعضاء على تقديم دعم عسكري لأوكرانيا.

حتى بداية الحملة الروسية، لم يكن هناك رد فعل غربي أو دولي جاد عليها

على مدى أسابيع، اكتفى "حلفاء" أوكرانيا بترديد أن روسيا لن تستطيع الدخول في حرب جادة وعالية التكلفة، لأنها تعاني من تراجع اقتصادي وتململ سياسي سوف يزدادان إذا فُرض مزيد من العقوبات. كانت تلك رؤية عقلانية، لكن ما اتضح بعد ساعات من بداية المعارك أن روسيا تمتلك قراءة أخرى للمعركة، وأنه إذا تركت الأمور على هذا النحو فإن الخاسر الأكبر سيكون أوكرانيا التي أصبحت مشلولة تمامًا تحت وقع الأحداث.

التمدّد العسكري الروسي والخذلان الواضح لأوكرانيا من نادي "الديمقراطيات" أصابا كثيرين بإحباط، وأوصلا رسالة مفادها بأن التحالف مع الغرب بلا معنى، خصوصا وأن هذه هي المرة الثانية التي يخذل فيها "المجتمع الدولي" أوكرانيا لتخسر اليوم إقليم دونباس، بعد أن كانت خسرت شبه جزيرة القرم في العام 2014. وأخيرا، حدث تحول لم يكن في الحسبان، أن الدول الغربية لم تعد تتعامل مع النزاع بوصفه مجرد حرب أو اعتداء، فالعالم مليءٌ بصور مختلفة من الاعتداءات التي لا تشد الانتباه، ولكن هذه الدول تعاملت مع التمدّد العسكري الروسي إعلان حرب على النظام العالمي، ما يهدّد مكانة المتحكمين فيه، ويحوّلهم إلى مثار سخرية. بتعبير آخر، كانت الخطورة في أن المسألة لم تعد تقتصر على وصول الروس إلى كييف أو على انتهاك سيادة بلد، ولكن الانتصار الروسي الذي بدا وارداً كان يشير إلى تبدّل وشيك وراديكالي في موازين القوى الدولية. يمكن لهذا التبدّل إن حدث أن يؤثر، على سبيل المثال، على محاولات ثني إيران عن امتلاك السلاح النووي، وربما لجأ الإيرانيون إلى تقوية موقفهم بالتذكير بمصير أوكرانيا التي بقيت، في النهاية، منزوعة السلاح ووحيدة.

تحول المعركة من معركة لصالح الشعب الأوكراني إلى معركة من أجل النظام العالمي، ساهم بشكل فعال في توحيد الأصوات التي كانت منقسمة

يمكن أن يساهم ذلك أيضاً في تعزيز انعدام الثقة في الحلفاء، لتتجه كل دولة لحماية نفسها وتقوية قدراتها بكل ما تستطيع من قوة، أو بالاعتماد على شركاء جدد، ليس من بينهم الولايات المتحدة ولا الدول الأوروبية. واليوم، يتفق الجميع على أنهم في خضم فوضى، وإن اختلفوا حول المتسبب فيها، فهل هم الروس مثلاً الذين تسرّعوا في استخدام الحل العسكري، أم حلف الناتو الذي رفض تقديم أية تطمينات للجانب الروسي، أم الولايات المتحدة التي لها مصلحة في إعادة ترتيب الأوراق الجيوسياسية، بما يشمل تفكيك خط "نورد ستريم 2" الذي لم تكن ترغب في اكتماله، وسعت إلى عرقلته لعدة أسباب، أهمها ما يخلقه من ارتباط وتشبيك بين روسيا وأوروبا، وخصوصا ألمانيا؟

ما جرى التوافق عليه أخيراً أن هذه الفوضى لا يمكن أن تكون في مصلحة أحد، فحتى لو كان قطع الطريق على "نورد ستريم" هدفاً استراتيجياً للأميركيين، إلا أنهم انتبهوا أن تكريس صورة ضعيفة لهم ليس في المصلحة على المدى البعيد، فتكفيهم الصورة التي ارتبطت بهم بعد الانسحاب المتسرع من أفغانستان، وبعد تراجع دورهم على المستوى العالمي في أكثر من ملف، وفي مقدمتها ملف التفاوض النووي مع إيران.

أدركت إدارة بايدن أن الاستمرار في سياسة العجز والانسحاب قد يدفع الحلفاء إلى إعادة التفكير في شراكتهم الأمنية مع الولايات المتحدة، خصوصا مع وجود إشارات إلى ذلك، تمثلت في تردّد دول كثيرة "حليفة" في اتخاذ موقف يحمل إدانة واضحة لروسيا، وكأن لسان حالهم كان يقول إن مناصرة المعسكر الغربي (هنا نستعير مصطلحات الحرب الباردة)، يعني خسارة روسيا صديقا، وقد لا يعني بالضرورة كسب الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية حليفا يمكن الوثوق به.

أكثر العقوبات على روسيا ألماً ربما تكون ما تعلق بالحرمان من استخدام نظام "سويفت" للتحويلات المصرفية

تحوّل المعركة من معركة لصالح الشعب الأوكراني إلى معركة من أجل النظام العالمي، ساهم بشكل فعال في توحيد الأصوات التي كانت منقسمة، ما بين شرق أوروبا الشاعر بالتهديد والراغب في تلقين روسيا درسًا قاسياً وغربها المنشغل بالمصالح مع الروس وما بين الولايات المتحدة على الجانب الآخر من الأطلسي، والتي كانت تشعر بتردد واضح. اليوم أصبح الجميع متحدين، وهم يعتبرون أن التوغل الروسي اعتداء على الجميع. في هذا المناخ، لم يتردّد المستشار الألماني، أولاف شولتز، في التعبير عن نية بلاده تقديم أسلحة لأوكرانيا، وهو تطور لافت، لأنه يعني أن صد الهجوم الروسي أهم من كل مصلحة وطنية، بما فيها الشراكة في الغاز.

اليوم، وبسبب هذا التنسيق العالمي الفريد من نوعه، تواجه روسيا تحشيداً عسكرياً نوعياً ومتطوعين محاربين من مختلف الجنسيات وحرباً إعلامية ومقاطعة شاملة، إلا أن أكثر العقوبات ألماً ربما تكون ما تعلق بالحرمان من استخدام نظام "سويفت" للتحويلات المصرفية. وهذا الحرمان، إن تم تفعيله على جميع المؤسسات المصرفية في البلاد، وليس فقط الوطنية منها، سوف يكون كفيلاً بتعطيل الحركة المالية، ما سيدخل روسيا في خضم تعقيدات مالية مركبة، على غرار التعقيدات التي تواجه الاقتصاد الإيراني. وبعد المنع من المشاركات الرياضية، ووصول العقوبات إلى مجالات أخرى، كالثقافة والأكاديميا، لم يعد شيئاً مستبعداً، والأكيد أن الحريصين على بقاء "النظام العالمي" سوف يفعلون ما في وسعهم لتحجيم روسيا، فمعركة اليوم ليست فقط بشأن أوكرانيا، وإن دارت رحاها فيها.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق