"معاوية" ودراما هشام جعيّط

29 مارس 2025
+ الخط -

أصاب حاتم علي، لمّا رأى الدراما التلفزيونية التاريخيّة "خطيرةً"، لأن المُشاهد يستقبلها حقائق مطلَقة، فيما المسلسل التاريخي مجرّدُ اقتراحٍ قابلٍ للنقاش، على ما قال لسائله فجر يعقوب في واحدةٍ من محاورات كتاب "الاستبداد المُفرح" (دار كنعان، دمشق، 2015). وأضاف "للأسف، لا يدرك المشاهد أن التاريخ نفسَه قد يكون، أحياناً، وجهة نظر". وأصاب وليد سيف لمّا رأى أن غاية الدراما التاريخيّة ليست أن تقدّم سجلّاً مدروساً مصوّراً لوقائع التاريخ المدوّن. وفي المقابل، لا يصحّ، في نظره ("الشاهد والشهيد"، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2016)، أن تضحّي المعالجة الفكرية والدرامية بنسق الوقائع التاريخية، فتختلق تاريخاً غير التاريخ...

تُفتَتح هذه المقالة، عن مسلسل "معاوية" الذي شوهدت حلقاته العشرون في رمضان الجاري، بإشارتيْن من السيناريست وليد سيف والمخرج حاتم علي، لأن آراءً تسلّحت، في مؤاخذاتٍ عليه، وفي التبخيس منه أحياناً، بالمستوى الرفيع لأعمال الثنائي الأميز عربياً في الدراما التلفزيونية التاريخية، فيما هما يقولان ما يجدُر أن نأنَس به بشأن هذا العمل غير المطلوب منه أن يأتي بحقائق مُطلقة، ولا أن "يسجّل" وقائع دوّنها التاريخ مصوّرة. وعندما طالب بعضُهم المسلسل المتعوب عليه بهذا وذاك، عندما رأوه غيرَ دقيقٍ في هذه الواقعة وتلك، زيد في التعريض به، وفي التحامل ضدّه، فيما الأدْعى أن يكون النقد الفني نقداً فنياً وحسب، وأن يعرف أهل الدرْس التاريخيِّ أن مرويّات التاريخ وفيرة، سيّما عن محكّاتٍ كبرى فيه، ولصانع أي عملٍ دراميٍّ عن أيٍّ من وقائعه أن يختار الزوايا التي يشاء، مع الوفاء لسياقاتها.

لا شأن لنا بإيران التي استنفرَت ضد "معاوية" بلا مسوّغ، ولا بأغراضٍ قد تكون مُضمرةً لدى منتجي هذا المسلسل، لم نتبيّنها بعد مشاهدته. لنا، في الأول والأخير، أن نُسلّم بحقّ أيٍّ كان أن يُنجز أيّ دراما عن أي شخصيةٍ بأيّ كيفيةٍ شاء، مع الاحتراس البديهي من الوقوع في التحريض والعنصرية والطائفية وأي مباذل أخرى. والسؤال هنا تعييناً: هل يجوزُ اعتبار المسلسلات التاريخيّة مصادر لمعرفتنا بوقائع التاريخ؟... وبالتالي: هل في وُسع من شاهدوا المسلسل المُكلف، والجيّد، أن يحدّثوا أنفسهم بأنهم صاروا على معرفةٍ بسيرة معاوية بن أبي سفيان؟... ثمّة خطورةٌ في السؤال، لأن المسلسل أفادنا، نحن مشاهديه، عن كثيرٍ مما صنعه هذا الرجل المركزي في التاريخ الإسلامي. وجعلنا نطلّ، في متخيّلٍ مشهديٍّ متتابع، بشروط دراما تلفزيونيةٍ أجادت في مواضع ليست قليلة، وأخطأت في هناتٍ هيّناتٍ، على مقطعٍ متعيّنٍ في هذا التاريخ، لا حاجة، ربما، إلى التنبيه إلى أنه مقطعٌ ذو حساسيةٍ عالية، إذ كان معاوية طرفاً في أولى الحروب الأهلية في الإسلام. ولكن هذه الإفادة لا يجوز الاكتفاء بها للقول بمعرفتنا معاوية بعد مشاهدتنا مسلسلاً تلفزيونيّاً عنه، ليس فقط لأن لكل واقعة تأويلاتِها، ولأننا نشاهد حدثاً على الهواء مباشرة قدّامنا، ثم قد نختلف في تسميته، مظاهرةً أو تمرّداً أو فتنةً أو شغباً أو ...، فكيف لنا أن "نحسم" مواقفنا من وقائع بلغتْنا في سرودٍ تباينت مصادر الوثوق في جامعيها ومدوّنيها، وكانت منقوصةً في هذا المطرح أو ذاك.

كان "معاوية" وفيّاً، إلى حدٍّ طيّب، لمسار الوقائع التاريخية الخاصّة بشخصيّته المركزية، ولتفاصيل تتعلّق بشخصياتٍ موازيةٍ عديدة، ولم يسقُط في الذي كان التخوّف منه مُشهَراً أن يقلّل من شأن الإمام علي، وفي البال أن مُنجز ابن أبي سفيان كان كبيراً في تعضيد الدولة الإسلامية المركزية ومنَعتها، بدهاء القائد وحنكة السياسي وغيرهما. أميل إلى أن يُنظَر إلى المسلسل محرّضاً من أجل مزيدٍ من المعرفة أكثر وأكثر بحدث الفتنة الكبرى، في التاريخ الإسلامي، بعد أن انتُفض ضد الخليفة عثمان ثم حوصر ثم قُتل، ثم جرى الصّدع والشقاق، وسالت دماء آلاف المسلمين في جولتي اقتتال مشهودتيْن، ثانيتهما بقيادتي علي ومعاوية، فكانت هذه الدراما بتسمية هشام جعيّط، في كتابه المترجَم "الفتنة... جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر" (1991). وقد كتب أن "الكثافة الدرامية تتكشّف فجأة بعدما يُقاس حجم المجزرة وعندما يبكى على الموتى"... كتب هذا وهو يفكّك معركة الجمل ثم معركة صِفّين وحوادث تتابعَت، في تحليلٍ مركّبٍ، عالٍ فكرياً وثقافياً ومعرفياً... لا غنى عن القراءة عن تلك الكثافة بشأن معاوية وقد جاء عليها بحّاثةٌ رفيع، وإنْ شاهدنا مسلسلاً تلفزيونياً أراه اتّصف بكثافة درامية حسنة.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.