معارك تصعيد يمنية .. الفرقاء والخصوم

معارك تصعيد يمنية .. الفرقاء والخصوم

06 اغسطس 2021
+ الخط -

اتخذت العمليات القتالية في اليمن أخيرا منحى تصعيدياً أكثر خطورة، حيث تزحزحت خريطة الصراع التقليدية إلى جبهاتٍ كانت بعيدة عن مناطق الاشتباك الرئيسية، ومع تباين الثقل العسكري للقوى المحلية المتصارعة في هذه الجبهات، بما في ذلك أسباب انتصاراتها، فإن تنامي الصراع الإماراتي - السعودي كان عاملا مؤثرا في مآلات المعارك، إذ يبدو أنه دخل مرحلة جديدة لإضعاف منافسها الإقليمي في اليمن ووكلائه المحليين، بما في ذلك فرض واقع جديد يحقق أجنداتها على المدى البعيد، إذ نتج عن التطورات العسكرية أخيرا في جبهات مدينة البيضاء فتح محاور جديدة نحو مدينة مأرب، آخر معاقل السلطة الشرعية في شمال اليمن، وذلك بعد انسحاباتٍ عسكريةٍ لافتة، بما في ذلك انتقال المعارك إلى حدود مدينة شبوة، بحيث التقت أهداف الفرقاء في تطويق حلفائهم لا خصومهم، الأمر الذي صبّ، في النهاية، في صالح جماعة الحوثي.

احتلت مدينة البيضاء أهمية مفصلية في سياق الصراع المحلي، حيث تشكّل المدينة ذات الموقع الاستراتيجي مدخلاً حيوياً نحو مدينة مأرب، الغنية بالثروات النفطية، وكذلك مدينة شبوة، فضلاً على تداخل حدود البيضاء مع ثماني مدن يمنية، منها العاصمة صنعاء، مقر سلطة جماعة الحوثي، بحيث شكّلت البيضاء حدّاً جغرافياً بين المناطق الخاضعة للجماعة والمناطق الخاضعة للسلطة الشرعية. ومن ثم فإن أي تغيير في موازين القوى العسكرية في جبهات مدينة البيضاء يشكل نقطة عبورٍ لتطويق هذه المدن أو تأمينها، إذ اعتمدت جماعة الحوثي في إدارة حروبها الداخلية على التموضع في مدينة البيضاء، كعمق استراتيجي لها، وذلك لتأمين المدن الخاضعة لها من جهة، ومن جهة أخرى، الانطلاق نحو مدينة مأرب، وقد مكّنها إحكام سيطرتها على مديرية مُراد في شمال مدينة البيضاء، العام الماضي، من مضاعفة هجومها على مدينة مأرب، من الجبهة الجنوبية، إلى جانب، هجومها من الجهة الشرقية، وذلك بعد سيطرتها قبل سنوات على جبهة نهم، شرق مدينة صنعاء، بحيث منحها ذلك نقاط انطلاقٍ ثابتةٍ لتطويق مدينة مأرب، بما في ذلك تأمين إمدادات مقاتليها، إلا أن ذلك لم يضمن للجماعة تقدّما وازناً في جبهات مأرب، بحيث تحوّلت إلى رمال متحرّكة تبتلع مقاتلي جماعة الحوثي، إذ إن تماسك القوى القبلية والمجتمعية في صد مقاتلي الجماعة كبّدها خسائر كثيرة، بحيث فشلت في تغيير معادلة الصراع داخل المدينة، لكن تنامي التناقضات البينية في معسكر خصومها في الجبهات القريبة من مأرب غيّر، إلى حد كبير، المعادلة على الأرض، حيث دخلت الإمارات في خط المعارك عامل إسناد غير مباشر لجماعة الحوثي، الأمر الذي مكّنها من تحقيق انتصارات عديدة من مديرية الزاهر في جنوب البيضاء، وحتى مديريتي ناطع ونعمان في شمال البيضاء، ومن ثم الضغط على مدينة مأرب من محاور عديدة.

تتباين طرق التدخلات الإماراتية في معارك جبهات البيضاء، والتي أفضت إلى سيطرة مقاتلي جماعة الحوثي على مناطق استراتيجية

بصفتها دولة متدخلة في اليمن، لعبت الإمارات، تماماً كالسعودية، دوراً محورياً في تحديد وجهة الصراع المحلي، من حيث تغليب التناقضات البينية على الصراع مع جماعة الحوثي. وإذا كان تنامي الصراع بين دول الأزمة الخليجية في سنوات الحرب السابقة قد حكم مسارات الحرب في اليمن، فإن اشتداد التنافس السعودي - الإماراتي في هذه المرحلة أثّر على سياقات المعارك في جبهات البيضاء، إذ تركزت الإستراتيجية الإماراتية في الضغط على السعودية، وتحديداً في جبهة مأرب، من خلال استنزاف وكيل السعودية، السلطة الشرعية، بحيث تقايض السعودية في ملفاتٍ يمنيةٍ أخرى، مقابل خنق المناطق التي تسيطر عليها القوى السياسية المتحالفة مع الشرعية، وبشكل خاص مدينة شبوة التي تخضع سياسياً لسلطةٍ مواليةٍ لحزب التجمع اليمني للإصلاح، خصم الإمارات ووكيلها المجلس الانتقالي الجنوبي، ومن ثم نجحت الإمارات في إدارة الصراع نحو غايتها، حيث أسفرت المعارك في الجبهات الجنوبية والشمالية في مدينة البيضاء عن تمركز مقاتلي جماعة الحوثي في مناطق متقدّمة لتطويق مدينة مأرب، ومن ثم إسقاطها، ويشكل ذلك هدفا استراتيجيا للإمارات، وذلك لإعادة رسم الخريطة العسكرية والسياسية بين جماعة الحوثي في شمال اليمن والمجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن. ومن ناحية أخرى، يشكل تهديد مدينة شبوة من مقاتلي جماعة الحوثي هدفاً آخر للإمارات، إذ إن هذه المدينة الجنوبية الغنية بالثروات النفطية، حيث تحتفظ الإمارات بوجود عسكري لها في ميناء المدينة، ظلت حائط صدٍّ يعيق تمدّد وكيلها، المجلس الانتقالي، في استكمال سيطرته على جنوب اليمن، حيث فشل المجلس عسكريا، وكذلك سياسياً في فرض وجوده في مدينة شبوة، بحيث بدا أن جماعة الحوثي هي الخيار الوحيد بالنسبة للإمارات لتغيير الوضع في المدينة لصالحها.

تتشابك المعارك في جبهات البيضاء ونتائجها على مدينة مأرب، لكن ذلك لا يعني بأي حال استقرار خريطة الصراع، حيث تتغير ديناميكية المعارك على الأرض وحدودها

تتباين طرق التدخلات الإماراتية في معارك جبهات البيضاء، والتي أفضت إلى سيطرة مقاتلي جماعة الحوثي على مناطق استراتيجية، وإن كان ذلك لا يعفي القوات التابعة للسلطة للشرعية من مسؤوليتها حيال مآلات المعارك، ولا السعودية، قائد التحالف العربي، حيث كشفت سياقات معركة الزاهر في جنوب البيضاء قدرة الإمارات على إدارة أوراقها في اليمن، ففي حين أسفرت عملية تحرير مديرية الزاهر التي دشنتها القوات التابعة للسلطة الشرعية، في مطلع يونيو/ حزيران الماضي، عن تحريرها من قبضة جماعة الحوثي وطرد مقاتليها خارج مديرية الزاهر، بحيث أدّى ذلك إلى تخفيف ضغط مقاتلي الجماعة على مدينة مأرب، بما في ذلك فتح فرص تطويق قوات الشرعية مقاتلي الجماعة من الجنوب، فإن الإمارات فرضت واقعاً جديداً من خلال وكلائها المحليين، فإضافة إلى اعتقال قوات الحزام الأمني في مدينة عدن قياداتٍ في مقاومة الزاهر، فإن القوات التابعة للمجلس الانتقالي في مدينة لحج أعاقت وصول الإمدادات العسكرية لمقاومة الزاهر، الأمر الذي منح مقاتلي الجماعة وقتا للالتفاف عليها، فضلا عن انسحاب قوات العمالقة من خطوط القتال الخلفية لتدعيم جبهة الزاهر، بحيث سقطت في الأخير بيد جماعة الحوثي، وذلك بعد سنواتٍ من سيطرة الشرعية عليها. ويبدو أن الإمارات ووكيلها هدفا من ذلك لتمكين جماعة الحوثي من المناطق المتاخمة لجنوب اليمن، بحيث تتحدّد خريطة الصراع على حدود يمن 1990، لكن الجماعة التي تتمدّد جغرافياً من خلال ضعف خصومها وصراعاتهم، وجدت في ذلك فرصة سانحة للانقضاض على الجنوب، حيث تمركز مقاتلوها على حدود مديرية الزاهر، وشنّت هجمات على جبهة سباح، في منطقة يافع، شمال شرقي لحج عند الحدود الإدارية مع محافظة البيضاء. في المقابل، لا تختلف مسارات المعارك في مديريتي نعمان وناطع، في شمال مدينة البيضاء، عن سياقات معركة الزاهر، إذ إن تشتيت الإمارات وحليفها وجهة المعارك من خلال تصعيد خصومتها مع منافسيها الشرعية وحزب الإصلاح على المستويين، العسكري والإعلامي، بما في ذلك التعبئة الشعبية، دفع المعارك إلى مآلات خطيرة، مع ضعف قوات الشرعية، وانتهازيتها، وترجيحها خياراتها الآمنة، فقد أسفرت معارك جبهة نعمان عن تقدّم مقاتلي الحوثي وسيطرتهم على منفذ "القنذع" المطل على مدينة شبوة، ثم سيطرتهم شبه الكاملة على مديرية ناطع، وذلك بعد تقهقر القوات التابعة للشرعية من محور بيحان، لحساباتها السياسية التي انطلقت من تأمين سلطتها في مدينة شبوة، لاستباق أي محاولةٍ من المجلس الانتقالي لاسقاط المدينة من الداخل.

تضاعفت موجات نزوح المواطنين هربا من الموت إلى صحارى قاحلة، ونزوح نازحين من مناطقهم المؤقتة إلى المجهول

من زوايا عديدة، تتشابك المعارك في جبهات البيضاء ونتائجها على مدينة مأرب، لكن ذلك لا يعني بأي حال استقرار خريطة الصراع، حيث تتغير ديناميكية المعارك على الأرض وحدودها، ومن جهة أخرى، لا يعني تقدم جماعة الحوثي في هذه الجبهات قدرتها على الحفاظ على مواقعها وذلك لاتساع جغرافية المعارك التي يخوضها مقاتلوها، بما في ذلك محاولة قوات الشرعية والمقاومة استعادة هذه المناطق، كما أنه من الصعب مقامرة الجماعة في خوض حرب داخل مدينة شبوة لإسقاطها، حيث تحكمها معادلة سياسية واجتماعية واقتصادية تجعل من مقاومة جماعة الحوثي شرطاً حيوياً لبقاء سلطتها الحالية، بما في ذلك مدينة مأرب، إلا أن ما أنتجته المعارك حاليا هو اتساع المناطق التي تسيطر عليها الجماعة في مدينة البيضاء، سواء على مدخل مدينة لحج، أو اختراق مدينة شبوة، مدينة الثروات في جنوب اليمن، وتهديد سلطة الإصلاح، بما في ذلك تطويق مأرب من جبهة نعمان، ومحاولة قطع الإمدادات من محور بيحان إلى جنوب مأرب، وتشديد الحصار على مدينة مأرب التي تشهد معارك عنيفة في الرحبة ورغوان ومدغل وصرواح، بيد أن كل هذه الانتصارات لا تثبت قوة الجماعة، وإنما غباء خصومها وكرمهم.

في حربٍ عبثيةٍ تدار من خارج الحدود، ولغايات دول الإقليم، بسذاجة وكلاء محليين يفتقرون للوطنية، وانتهازيتهم، تحوّلت اليمن إلى ساحة متجدّدة لتصفية حسابات الدول الإقليمية المتدخلة، وترويض منافسيها، بحيث لم تعد سوى جغرافيا تستنزف اليمنيين المغلوب على أمرهم من "قواد" الإقليم، فعلى امتداد خريطة المواجهات تضاعفت موجات نزوح المواطنين هربا من الموت إلى صحارى قاحلة، ونزوح نازحين من مناطقهم المؤقتة إلى المجهول، لتتسع مأساة بلدٍ يعيش أسوأ وأقذر حرب تقضي على كل ممكنات الحياة الآدمية.