معارضة المنفى المصرية والتدخّل الدولي

08 فبراير 2025

(محمد عبلة)

+ الخط -

لم تقتصر أنشطة معارضة المنفى المصرية، أخيراً، على مراجعة الذكريات، إذ شحذ الحدث السوري الأذهان لتصعيد مطالب استعادة "الربيع العربي"، حيث انشغلت كياناتٌ كثيرة بإعلان تفضيلاتها مسار التغيير في مصر. ومع المَيل إلى الخيار الثوري، تبدو أهمية مناقشة الخريطة السياسية لمكوّنات المعارضة، ومدى اقترابها من تجديد المحتوى السياسي للمعارضة.
تقليداً سنوياً، تجتهد المعارضة في صياغة موقفها السياسي تجاه ثورة يناير (2011)، سواء لتأكيد موقفها أو للشروع في اقتراح جديد. ولعشر سنوات، واصلت إصدار البيانات والاحتفالات أو تدشين كيانات معارضة جديدة، لتشهد السنة الماضية (2024) تدشين منصّات إخبارية عديدة في وسائل الاتصال الاجتماعي، لتوسيع نطاق نشر محتوى الاحتقان والغضب عبر وسائط مُتعدّدة، تضمن استمرار التدفق الإعلامي للجماهير، بما يُغطّي الإعلام الحكومي.
في العام الماضي، سارعت مجموعات الإخوان المسلمين، ومكوّنات المعارضة الأخرى، لوضع تصوّرها إلى مدىً زمنيٍّ طويل نسبياً، لكنّها في العام الجاري اكتفت ببيانات قصيرة للتعبير عن المشاركة في مناسبة ثورة يناير السنوية، وركّزت قسماً من تفاعلاتها الأساسية. من هذه الوجهة، تأثّر بيانا ثورة يناير بمجريات أحداث سورية، ليتضامنا على حتمية التغيير، وضح هذا في ربط فريق إخوان أون لاين" (24 يناير/ كانون الثاني 2025) "البشرى والأمل في استرداد الإرادة" بتفاقم المشاكلات الداخلية وانكشاف الأمن القومي، وفي ذات الاتجاه كان، تركيز الفريق الآخر "إخوان سايت" (25 يناير 2025)، على تجميع الإرادة واعتبار الأزمات السياسية والاقتصادية عوامل الثورة الكامنة.
شكّلت هذه الحتمية الأرضية لمواقف لاحقة، كان أهمها التركيز على عدم مصداقية الحكومة وخفض أهمية مظاهرات "رفح" في نهاية يناير الماضي، واعتبرت الاصطفاف وراء عبد الفتّاح السيسي لا يمنع قبول مصر بتهجير الفلسطينيين، إذ حَصرت دور مصر في التآمر الدولي على الفلسطينيين تحت مساومة "صفقة القرن". وإزاء تجدّد الضغوط الأميركية لتهجير سكّان غزّة قسرياً، كان رفض مجموعة إخوان صلاح عبد الحق، في تصريح إعلامي (26 يناير 2025)، سريعاً، فيما تأخّر موقف الفريق الآخر حتى نهاية يناير الماضي، وجاء ضمن التذكير بمساحات الخلاف مع السلطة.

بعد الحدث السوري، راجت لدى الإسلاميين المصريين نقاشات عامّة حول الثورة المسلّحة، والاعتذار عن خطأ السلمية

ورغم أهمية التلاقي مع الدولة في قضايا الأمن القومي، لم تعمل مكوّنات المعارضة لتطوير موقفها تجاه رفض الضغوط الأميركية، فيما نشط الاتجاه للمعارضة في نشر التعليقات في وسائل التواصل، لتتلاقى ملامح الثقافة السياسية داخل تيار الإخوان المسلمين في موقفين؛ إسقاط الحُكم حلّاً رئيساً، والتقليل من شأن أهمية حاضنته الاجتماعية. لم يكن الرأي السياسي المُتغيّر الوحيد في خلفية المشهد، وهي مواقف تجمع ما بين القراءة الأحادية للحدث والاستعلاء الاجتماعي.
وعلى المستوى الفكري، جارت المعارضة الأحداث الإقليمية لتعويض النقص في نموذجها السياسي، فرغم التوافق على إسقاط الحكومة وإقامة الديمقراطية، فإنه مع ظهور "طوفان الأقصى"، وانزياح النفوذ الإيراني، اتجهت تطلّعات الإسلاميين للثورة المسلّحة، فيما تمسّكت المكوّنات الليبرالية بالتغيير السلمي. لوقت طويل، تقارب الإسلاميون واليسار مع الثورة الإيرانية، كان الاندماج في "محور المقاومة" علامةً على الامتزاج العضوي والفكري، وفي سياق الأزمات الإقليمية، رُوّج للقيم النضالية الإيرانية في لبنان واليمن. غير أنه مع ظهور الإسلامية الجهادية في سورية على حساب الفواعل الإيرانية، تطلّع الإسلاميون المصريون لاستلهام اللحظة السورية في الإطاحة بالحُكم في مصر. وكان لافتاً، اهتزاز أفكار التغيير مع سرعة انطلاق الجماعات المسلّحة من إدلب، ووصولها إلى دمشق، لتظهر المناقشات العامّة حول الثورة المسلّحة، والاعتذار عن خطأ السلمية، وقد راج هذا التوجّه لدى الإسلاميين.
وخلال هذه الفترة، لم يُظهِر الإسلاميون مواقفَ حاسمةً لرفض العنف بقدر ما كان الاهتمام بترقّب تفعيل دور المُسلّحين المصريين في سورية، لتهيمن هذه الأجواء على اتجاهات استعادة "الربيع العربي" تحت تأثير الصورة السورية، فتتأثر اتجاهات الإسلاميين بمسار تقويض نظام حزب البعث وتركيز السلطة، فيما يتوارى الطلب على الديمقراطية في مقابل تشجيع احتكار الثوار المُسلّحين.
يعكس اهتزاز منظور دعاة "الربيع العربي" بين السلمية والعنفية خِفَّة المحتوى السياسي للتغيير، فسارت التطلّعات تأثراً بالأحداث الجارية أكثر منها اعتماداً على محتوى نظري للتحوّل الديمقراطي أو الإطاحة بالحكومات، ما يشير إلى تقلّب تطلّعات التغيير وتأثّرها الواضح بالتغيرات اليومية، وهي ظاهرة ترجع للفصام ما بين الانفعال والنتائج، لدى مجموعات المعارضة. فعلى الرغم من التواصل مع الحكومات الأجنبية، لم تُعلِن دولةٌ رغبتها في تمكين معارضي المنفى من السلطة، أو رعايتهم، على غرار ما حدث في سنوات ما قبل 2011.
تضع التطوّرات الجارية المعارضة بين تناقضين؛ فبينما تفتقر للقدرات الذاتية وهيمنة الطابع الموسمي على نشاطها، فإنها نظرت بإيجابية لتداعيات أحداث سورية، من دون الاعتبار بتأثير المُتغيّرات الخارجية، وهي قراءة ضمن السعي لمكاسب مُريحة، تعلو فيها سماتُ الطفيلية محاولةَ تحسين الأداء، ما يشكّل سمتاً عامّاً في كثير من التصرّفات، يمثل الانفعال باحتجاجات بنغلاديش واحداً من جوانب استسهال التغيير من دون العمل لاكتمال شروطه.
وبغض النظر عن أعباء تدويل المطالب الحزبية، انشغلت المعارضة المصرية بمصادر التأثير السياسي، فعملت على مستويين؛ الاعتماد على روابط الإسلاميين، والتواصل مع الحكومات الأجنبية، لهدف مشترك، يتمثّل في الضغط على الحكومة المصرية. ومنذ 2014، أسّست الجماعة معارضتها للسلطة على أنها قضية المسلمين كلّهم، لتفتح المساهمة في الأنشطة لأعضاء التنظيم من الجنسيات كلّها. قام هذا المسار على العديد من المؤتمرات، وإصدار بيانات جماعية، لأفراد وجمعيات إسلامية، بدأت ببيانَي الكنانة (1 و2 في 2015) وانتهت بحزمة بيانات نقض مواقف مصر تجاه قطاع غزّة، وإدانة مشاركتها في الحصار، وأسّست فيها عقيدة دينية رافضة لكلّ ما يصدر من الحكومة المصرية والدعوة للثورة عليها. ورغم أهمية تمدّد الإسلاميين خارج الحدود، فقد أدى تدويل المعارضة لنقص الاحتياج المتبادل فيما بين الكيانات المصرية، لتُخفِق محاولات متتالية لتكوين جبهة مشتركة. وخلال السنوات الماضية، زار معارضو المنفى الكونغرس الأميركي، والبرلمان الأوروبي، وأخيراً تظاهروا أمام البرلمان البريطاني. شكّلت هذه المسارات ركناً أساساً في سلوك المعارضة تحت مظلّة المجلس الثوري، والرابطة المصرية في بريطانيا، وغيرها من الجمعيات في الولايات المتحدة، مستفيدةً من ازدواج الجنسية للمصريين، ومن مشاركة خريطة واسعة من الجنسيات الأخرى. وبشكل عام، انطوى محتوى التواصل على تقديم شكاوى ضدّ الحكومة المصرية. شكّلت جولة المجلس الثوري (28 يناير 2015) في الكونغرس الأميركي باكورة مسار طرق أبواب الحكومات الأجنبية في أكثر من 27 دولة، وتبعتها زيارة برلمان النمسا، لتنتهي الرحلة بالتواصل مع البرلمان البريطاني (2018)، والتظاهر أمامه في العام الجاري (2025).
ومن خلال هذه الأنشطة، حاولت المعارضة اكتساب صورة ممثّلي الشعب وتلاقي إرادة المشاركين في إسقاط النظام. ويشير تكرار هذه الممارسات إلى انخفاض الحساسية للتحريض على التدخّل الدولي، وأعبائه على مستقبل الدولة. في 2018، تلاقت آراء الجماعة في قبول رقابة مجلس العموم على حالة حقوق الإنسان، وهي حالة لا تقلّ أثراً عن التهنئة بفوز جو بايدن، ومطالبته بالتدخّل الإنساني، أو ترجيح مصداقية دونالد ترامب في مقابل الترويج لتهافت السلطة في مصر.

 تُعوّض المعارضة المصرية ضعفها بالاعتماد المتزايد على الدعم الخارجي

على أيّ حال، يقدّم التواصل أو التظاهر أمام المؤسّسات الأجنبية صورتَين مختلفتَين؛ الدعاية للتدخّل حتى إسقاط الحكومة القائمة، وجاهزية المتظاهرين لاستلام السلطة. وتكشف مشاهد الزيارات للمؤسّسات الأجنبية عن وعيٍ متناقض؛ تظهر ملامحه في التغاضي عن مُعاندة الميراث الاستعماري للتحرّر، لتكون مبرّرات تزامن مظاهرات المعارضين أمام مجلس العموم مع مآسي حرب غزّة أمام اختبار القدرة على القراءة السياسية البعيدة من تحفيز المؤسّسات الأجنبية على استغلال مراجل الضعف، أو تهيئة الظروف للتدخّل الدولي المباشر.
من الوجهة التاريخية، توفّر معارضات المنفى مناخاً ملائماً لنقل النفوذ الخارجي، وخصوصاً مع رمادية أفكار التحرّر، وضغوط شروط الإقامة على استقلال قرارها. في الوقت الراهن، يتقارب تدويل المعارضة لأنشطتها في المنفى مع تصرّفات المعارضة العراقية عندما بدأت خلال مرحلة الحصار الغربي في تسهيل الضغوط الأميركية وصولاً إلى مستوى التواصل العضوي مع المؤسّسات الأميركية، ليكون بيان لندن (17 ديسمبر/ كانون الأول 2002)، نتيجة تراكمية لسلسلة حوارات وضعت أرضية تمزيق الدولة وخضوع المعارضة لإدارة بول برايمر، لينتهي دورها معارضةَ منفى مرّة أخرى.
بشكل عام، تقوم وضعية المعارضة على تعويض ضعفها بالاعتماد المتزايد على الدعم الخارجي، فبينما تعاني المعارضة من تراخٍ هيكلي وفكري، يعمل استمرار التواصل مع المؤسّسات الأوروبية والأميركية لإنضاج شروط التدخّل. فعلى مدى الفترة، تتكوّن قناعات مشتركة من شأنها ضمان الحدّ الملائم لنشاط المعارضة ومحاولة استثمار الضغوط لفرض الإذعان على الحكومة أو التمهيد للتدخّل المباشر، وهي صيغة متقاربة مع انضواء حالتي ليبيا وسورية تحت التطلّعات الدولية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .