معارضات لبنان: سلطوية الذهنية

معارضات لبنان: سلطوية الذهنية

09 ابريل 2022
+ الخط -

لمن يعرف لبنان جيداً يدرك أن انتفاضة الناس في 17  تشرين الأول (2019) ستنتهي في بضعة مكاتب ضيّقة بين أيدي أشخاص، استغلّوا الانتفاضة في حدّها الأقصى، أو لم يعرفوا كيفية ترجمتها في الحدّ الأدنى. في الحالتين، يعود السبب إلى ذهنية خاطئة متفشّية، أكبر من هؤلاء الأشخاص. هي ذهنية متأصلة في عقل من يسعى إلى السلطة، فقط من أجل السلطة، لا من أجل تطبيق أفكار محدّدة، وإخراج لبنان من نفقٍ لا ينتهي. غريبٌ وجود من اصُطلح على وصفهم بـ"المجموعات" و"الحركات" الذين تجهل الغالبية الساحقة من الناخبين أسماءها، بموازاة جحافل من "النشطاء" و"الثوريين" الذين لم يكن معظمهم سوى أشخاص يحلمون بإزاحة هذا النائب أو ذاك، بدلاً من التصرّف ضمن برنامج واضح المعالم.

"البرنامج"، لعلّها الكلمة التي لا يفقهها معارضون عديدون، ولا يدرك تأثيرها على بلد كلبنان وشعبه. وإن أراد أي منا الغوص في تفاصيل "المفاوضات" بين المجموعات المعارضة، سيرى أن كل شيء تمحور حول "أنا أفضل منك"، لا على تذليل العقبات أمام الأفكار المتضادّة، والخروج بسلّة تفاهمات تُتيح ترشيح 128 شخصاً لـ128 مقعداً نيابياً في 15 دائرة انتخابية، في الانتخابات التشريعية المقررة في 15 مايو/ أيار المقبل. بالعكس، عمل الجميع إما على لعب دور "حصان طروادة" منبثق من الأحزاب والتيارات المعروفة لضرب المعارضة، أو التمسّك بأنانية فردية وجماعية على مستوى تجمّع ما، أو التصرّف بما يراه حرية الديكتاتورية لا ديمقراطية الحرية.

بالتالي، لن يكون خطأ الناخبين، إن اقترعوا أصلاً، إذا امتنعوا عن التصويت أو انتخب بعضهم أحزاباً وتيارات وشخصيات معروفة. كلمة "خطأ" أصلاً لا يُمكن إدراجها في القاموس الانتخابي اللبناني بحق الناخبين. كم من ناخبٍ محسوبٍ على فريق سياسي يعمل في قطاع عام؟ كم من ناخبٍ استفاد من نائب أو وزير من أجل تأمين طبابته وتعليم أولاده ومعالجة أموره الخاصة؟ كم من ناخبٍ تلقى إعانات طبية ومعيشية من نواب وأحزاب؟ طبعاً، حين يتعلق الأمر بدائرة الأمان الخاصة لكل فرد أو أسرة أو مجتمع، لا أحد سيفكّر بتغيير جذري. في المقابل، إن "التضحية" من أجل إنجاح معارضة موحّدة، واضحة البرامج في المدى القصير والمتوسط والطويل، أمر سيلتزم به الناخبون وبشراسة، ولن يتردّدوا لحظة في التصويت لها، خصوصاً أن لوائح الأحزاب التقليدية تتناحر في دوائر عدة، أو متحالفة قسراً في دوائر أخرى.

خطأ "المعارضات" أنها نصّبت نفسها ناطقة باسم أوجاع الناس، بينما لم تكن عملياً سوى واجهة أخرى لسلطةٍ لا تكترث بالناس. والذهنية هنا هي لبّ الإشكالات. لا يُمكن معالجة أي وضع، مهما كان صغيراً، نشأ بسبب ذهنية خاطئة بالذهنية نفسها. لم يكن الناس في لبنان يريدون سوى فريق يعلم حاجاتهم ومولود من صفوفهم، ويدرك حقيقة ما يعانونه، لا أن يهرول إلى أقرب محطة تلفزيون والحديث إلى الإعلام عن "شعوره بالأسى"، من دون أن يفعل شيئاً. من حقّ الناس أن يعلموا أن أي فرد صاعد منهم، يدرك الكلفة الحقيقية لعلبة الدواء وقسط المدرسة وإيجار المنزل وأثمان الطاقة والعجز عن شراء بطارية لقنديل الكهرباء. نعم، البطاريات الصغيرة غير متاحة لناخبين عديدين.

ما فعلته هذه "المعارضات" خطيئة بحق جمهورٍ آمن بقدرته على إفراز شخصيات من صفوفه لقيادة عملية تغيير جذرية، تُنهي عقوداً من الإجحاف بحقّه. وحقيقة أن تخصيصها الأموال لمواجهة بعضها بعضا، بدلاً من الاستفادة منها في بناء لوائح موحّدة، يُمكن وصفها بـ"الخطيئة التي لا تُغتفر". هل كان صعباً الخروج ببرنامج موحّد واضح، صدح به ملايين اللبنانيين في ليلة تشرينية عابرة، يتمحور حول "الرغبة في العيش من دون مذلّة"؟ لم يكن صعباً، لكن الذهنية السلطوية بشعاراتٍ "فوقية" وأنانية لا تنضب، لا تزال أقوى من رغبات الناس.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".