معادلة الصراع في أوكرانيا .. الحرب والسلام

معادلة الصراع في أوكرانيا .. الحرب والسلام

21 فبراير 2022
+ الخط -

معادلة الصراع التي تحكم أزمة أوكرانيا هي: روسيا وأميركا لا تريدان الحرب، لكنّهما لا تخشيانها. روسيا لأنّها تريد تحقيق مطالبها الأمنية، بوقف تمدد حلف الناتو، وضم دول مثل أوكرانيا وجورجيا المجاورتين إليه، وعدم نشر صواريخ استراتيجية على حدودها. إذا كان بإمكانها تحقيق ذلك بدون حرب، فلماذا المغامرة إذاً. والأهم أن موافقة الغرب على هذه المطالب ستشكل بداية اعترافه بنظام متعدّد الأقطاب الذي أعلنه صراحة وزير خارجية روسيا، لافروف، قبل أسابيع، لمّا قال إنّ النظام أحادي القطبية قد انتهى، وقد بدأ عصر تعدّد الأقطاب، فقبول الغرب أن يفرض عليه الرئيس الروسي، بوتين، من يدخل إلى "الناتو" ومن لا يدخل اعتراف صريح بشراكة معه، حتى في أمور سيادية للدول التي يحقّ لها دخول أي تحالفات دولية، أمنية كانت أم غيرها. 
لكنّ موسكو لا تخشى الحرب، لأنّ لها اليد الطولى في أوكرانيا، كون هذا البلد يمثل أمناً قومياً لها، وهي مستعدّة للذهاب في أيّ مواجهة إلى خط النهاية، حتى لو وصلت إلى حرب نووية. وقد قامت موسكو بمناورات استراتيجية نووية في اليومين الماضيين، لتوصل رسالة واضحة إلى الغرب أنها على استعداد لهذا إذا تطلب الأمر. صحيحٌ أنّ الغرب أقوى عسكرياً من روسيا، لكنّ كسب الحرب لا يُقاس بمن يمتلك القوة العسكرية الأقوى، لكن بمن لديه الاستعداد لاستخدامها، والاستثمار في حربٍ معينةٍ ومدى أهمية ذلك لأمنه القومي. بالنسبة لروسيا، أمن أوكرانيا من أمن موسكو، لكنّ الولايات المتحدة ليس لديها الاستعداد لخسارة حتى جندي واحد في أوكرانيا، لأنّ هذا البلد ليس ضمن معادلتها للأمن القومي الأميركي.

تريد أميركا أن تستمر بإعادة بناء النظام الدولي من دون هذه المناوشات من بوتين. من جهة أخرى، لا تريد الإدارة الأميركية الحرب في أوكرانيا

الولايات المتحدة هي الأخرى لا تريد الحرب، لأنّ أولويتها بترتيب أوضاع النظام الدولي هي الصين، ولا تريد أن تنشغل بروسيا عوضاً عن ذلك. يولي الرئيس الأميركي، بايدن، اهتماماً كبيراً بإعادة بناء النظام الدولي الذي تخلّى عنه سلفه ترامب، الذي كان يُؤثر مصالح وطنية أميركية على حساب الشراكات الدولية. همّ بايدن الأكبر هو الصعود الاقتصادي للصين، وليس روسيا صاحبة الاقتصاد الهزيل ضعيف الإنتاج، المعتمد بشكل أساسي على بيع الغاز والسلاح. تريد أميركا أن تستمر بإعادة بناء النظام الدولي من دون هذه المناوشات من بوتين. من جهة أخرى، لا تريد الإدارة الأميركية الحرب في أوكرانيا، لأنّها لا تستطيع تقديم الكثير لها، لمنع بطش الدب الروسي. أقصى ما تستطيع تقديمه فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وكذلك تقديم أسلحة ودعم لأوكرانيا. ما لا يدركه الغرب (أو يدركه ولا يستطيع عمل غيره) أنّ آخر همّ بوتين العقوبات الاقتصادية، فهذه لم تمنع يوماً ما مخطّطات استراتيجية ذات علاقة بالأمن القومي، خصوصاً للأنظمة الديكتاتورية، فمهما فرضت أميركا من عقوبات على روسيا، لن تصل إلى مستوى العقوبات التي فرضتها على إيران، فهل أوقفت الأخيرة برنامجها النووي بسبب العقوبات الاقتصادية؟! بالإضافة إلى ذلك، لا تريد الولايات المتحدة الحرب خوفاً من أن تنكشف على الساحة الدولية، عندما تقف عاجزة أمام مشهد الدبابات الروسية تجوب كييف، وأثر ذلك على مصداقيتها مع حلفائها.
لكنّ أميركا أيضاً لا تخشى الحرب، لأنّ ذلك ربما يعني تورّط روسيا في حربٍ قد تستنزفها، وقد تعيدها إلى سيناريو الغزو السوفييتي لأفغانستان والاستنزاف الروسي هناك. لقد زوّدت واشنطن أوكرانيا بالصواريخ المضادّة للطائرات (ستينغر)، وهي الأسلحة الفتاكة التي قلبت معادلة الحرب في أفغانستان في الثمانينيات، وكانت هذه الصواريخ المسؤولة عن إسقاط ما يقارب 270 طائرة سوفييتية. مثل حربٍ كهذه تخوضها أوكرانيا بالنيابة عن أميركا، ولا تتطلب أيّ قوات عسكرية أميركية هي بالتأكيد لا تخيف واشنطن التي أعلنت سلفاً أنّها لن ترسل قوات عسكرية إلى أوكرانيا. 

تنشط باريس وبرلين في الأزمة منذ بدايتها، وسيصبح دورهما أكثر أهمية للوساطة إن نشبت الحرب بين الدولتين الجارتين

لا تمنع معادلةُ كهذه نشوب حربٍ في أوكرانيا، على الرغم من أنّها لا تشجعها. أي أنّ الصراع إذا تُرك يتطوّر بفعل دينامياته الداخلية التي تدفع عادة باتجاه التصعيد، بفعل عوامل، مثل غياب الثقة والأمن، وغير ذلك، فإن النتيجة ستُفضي، بالضرورة، إلى حرب قادمة في أوكرانيا. الشق الثاني من المعادلة يفضي إلى أنّ كلا الطرفين لا يخشيانها، وبالتالي، لن يعملا على تجنّبها، وهذا بخلاف المعادلة التي حكمت الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين التي بُنيت على الردع المتبادل. 
ومع ذلك، الشقّ الأول من المعادلة هو ما يُبقي الباب مفتوحاً من أجل تجنّب حربٍ شرسة في أوكرانيا، وهي عدم رغبة الطرفين بخوض الحرب تطوّعاً. تمنح هذه النافذة الضيقة أهمية خاصة لطرفٍ ثالث للتدخل، وتقديم حلول خلاقة، تكون بمثابة طوق النجاة للطرفين. بشكل خاص، تزيد هذه المعادلة من أهمية "منصّة النورماندي"، وبشكل خاص دور ألمانيا وفرنسا فيها، لتقديم طوق النجاة، ولو في الوقت الضائع، لمنع نشوب حرب لا أحد يمكنه التكهن بنتائجها. تنشط باريس وبرلين في الأزمة منذ بدايتها، وسيصبح دورهما أكثر أهمية للوساطة إن نشبت الحرب بين الدولتين الجارتين. قد تربح روسيا الحرب، وهذا ممكن بالنسبة لأميركا أيضاً، لكنّ الخاسر الوحيد بالضرورة من الحرب إذا نشبت ستكون أوكرانيا، وسيكون للقطاعات الاقتصادية العالمية المرتبطة بالنفط والغاز والقمح والذرَة (أهم صادرات روسيا وأوكرانيا) نصيبٌ من آثارها السلبية. 

72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات

أكاديمي وباحث فلسطيني، رئيس برنامج إدارة النزاعات في معهد الدوحة للدراسات العليا.

إبراهيم فريحات